عندما يستشعر عموم الناس ان الوطن يتبدي إقصاء وتفاوتا في العيش وقمعاً، وغياباً للعدالة والاستحقاقات فإن المواطن يصبح أمام مصيره معزولاً مسكوناً بسؤال »لماذا« وتظل معاناته تستصحب سؤاله: لماذا لا يحصل علي استحقاقاته؟.. لكن عندما ينضج سؤال »لماذا« يستولد وعي المراقبة لحقيقة دلالات أساليب النظام الحاكم كاشفاً عن المستور في خطابه السياسي المعلن وممارساته فيقود ذلك الي تبلور سؤال »كيف«.. صحيح ان سؤال: »كيف يمكن التعافي من هذا النظام؟« قد يتبدي سؤالاً فردياً لكن الصحيح ان إجابته لا تحسم فردياً إذ تتطلب تواصلاً وتداولاً اجتماعياً عبر ابتكارات التقنية الالكترونية، التي تسمح بحرية تدفق التواصل الاجتماعي جغرافياً تخطياً لأساليب القمع الأمني التقليدي انتقالاً الي كل أطياف المجتمع للتوافق علي خيار جماعي بالتحرك السلمي المضاد للنظام القسري الحاكم إسقاطا لمشروعيته كان ذلك مسار ثورة فجرها الشبان المصريون والتفت حولها الجموع المقموعة وحماها الجيش في مواجهة نظام شكلت رموزه منظومة مغلقة علي مصالحها تمارس شتي الانتهاكات والنهب المنظم لاستحقاقات المجتمع إذ تمتلك هذه المنظومة المغلقة وهماً مزدوجاً أولهما أنها وحدها صانعة صورة الحاضر والمستقبل بفرضها علاقات ثابتة مع المجتمع تخضعه لترسيماتها، وتجعله يرضخ لمخططاتها بالقبضة الأمنية التي تحميها وثانيهما وهم التعالي علي منتجات العقل الانساني الفكرية والعلمية التي من خلالها يستطيع الانسان تخطي الإكراهات الطبيعية وأيضاً الاقتصادية والسياسية خروجاً عن الحدود القسرية المفروضة إذ تمثل هذا الوهم الثاني في التشويش الفكري لمنظومة رموز النظام الحاكم بتصورها قصر حركة المجتمع علي نتائج أفعال فئة وحيدة مسيطرة بسلطتها القسرية دون إدراك قيمة الأفكار بتنوع مجالاتها التي تشكل معني الثقافة وتأثيرها في قوي المجتمع حين تتجسد في أدوات ومناهج عمل تحرك المجتمع لاسترداد حقوقه العامة. لكن علي الجانب الآخر فإن انفجار حقائق الانتهاكات والنهب العام والفساد بكل تجلياته من تشوهات اقتصادية وتدمير الثروات العامة وما أنتجه من علاقات التفاوت وأشكال العوز ومصاعب القبول العقلي للمفارقات الفظة بين فروق خطوط مستويات ذلك التفاوت بين النخبة المحظية والأغلبية التي تعاني أشكال التفاوت كافة.. كل ذلك شكل مساحة من الارتياب وعدم الثقة علي المستويين الأفقي والرأسي توجساً من فخاخ الارتداد التي ينبغي تجنبها.. صحيح ان هذا التوجس قد يكون مفهوماً في ظل انفجار تلك الحقائق المذهلة التي تجاوزت حدود التصور وأنتجت اجتراراً متأسياً وممتداً للمظالم، لكن الصحيح ان للثورة غايات تستهدفها ولابد لها من وسائل تؤمنها وتعززها وغاية الثورة المصرية تستهدف ان تكون لسياسات النظام السياسي الحاكم مردودات إيجابية تتجلي في تحقيق العدل الاجتماعي وتكافؤ الفرص واحترام استحقاقات المواطن وكرامته وحريته في خياراته الفكرية ومعتقداته وصحيح أيضاً ان وسيلة ذلك تستوجب تغيير بنية النظام القسري الذي أسقطته الثورة الي نظام يمارس سلطة تلاؤمية مقيدة بالمشاركة العامة وتبادل الآراء والانفتاح العلني والموضوعي علي مجتمعها بالتداول دون إقصاء أو استبعاد، وصحيح كذلك ان ضمانة ذلك منوطة بالمدونة الدستورية التي تؤمن تقييد السلطات وضرورة تداولها والفصل بينها، كما تؤسس مشروعية حق مراقبتها ومساءلتها تفعيلاً لكفاءة مؤسساتها، انطلاقاً من ان النظام السياسي ليس مشروعاً لتناسق السلطة وتوازنها فحسب لكنه أيضاً طريقة تضمن التواصل مع المواطنين ليتدبروا عدالة شئون العيش المشترك في وطنهم تجسيداً للرأسمال الاجتماعي الحامي لوجودهم واستحقاقاتهم، لكن الصحيح ان ثمة مخاطر تتطلب الانتباه إذ ان غياب الثقة والتوافق يلعب دوراً سلبياً في تآكل معني المجتمع ويفتته ويمزق وحدته حيث يسعي كل طيف من أطياف المجتمع الي استدعاء نموذجه واجتراره واستنساخه ويمتنع عن النظر الي غيره أو حتي الي مفارقات التاريخ ليقيم عالمه الخاص منفرداً وذلك ما ينفي صيغ التعايش ويسد آفاق التوافق ويفضي الي مخاطر انشطارات النسيج الاجتماعي التي تهدد تماسكه، بل ان هذه الحالة من الانسداد تسمح لمخاطر مصنعة من أطراف خارجية ان تتمفصل مع معطيات الداخل لتمارس تأجيج مساحات الارتياب تبديداً للثقة والتوافق لذا فإن علي القوي الوطنية مواجهة تلك المخاطر ورهان نجاح المواجهة يتجلي في تكاتف كل أشكال الانتماء في وحدة وطنية لإعادة بناء الثقة وكشف مدي تأثير حقائق تلك المخاطر في استقرار الوطن وعرقلة مكتسبات ثورته في إقامة المجتمع العادل للجميع.