علي باب النهاية دائماً تعود ذكريات البداية. وما أغرب أن يكون مُسناً. ويتراءي أمام عينيه وفي مخيلته مشهد أول يوم له في المدرسة،حين كان طفلاً في الخامسة. يحلم بالذهاب إلي المدرسة مثل الأولاد الأكبر منه! وحين جاء صباح اليوم الموعود،استيقظ مبكراً مع أول ضوء للصباح،ارتدي مريلة المدرسة بسرعة،وهو ينتفض من الفرحة والحماس،وخرجت معه أمه،وقد تعودت أن تصطحب أطفالها،في اليوم الأول للدراسة. في الطريق كان يطير فرحاً،لكنهما ما إن اقتربا من بوابة المدرسة،حتي تثاقلت خطواته،ثم تسمر في مكانه وأعلنها صريحة لأمه.. إنه لن يدخل هذه المدرسة! أخافه زحام التلاميذ وصياحهم،نظر فإذا كلهم أضخم منه في الحجم،فماذا يمكن أن يفعل في هذه الغابة،وهو الذي تعود أن يقضي نهاره إلي جوار أمه في أمان البيت،يلعب ويلهو،يلاحق أمه أينما ذهبت،إلي أي مكان في البيت. يصرخ فتأتي له بالطعام أو الحلوي،يبكي فتدفن رأسه الصغير في حضنها. هل يمكن أن تسمع صراخه إذا دخل هذه المدرسة؟ خلاص بقي.. إنت بقيت رجل! حاولت أن ترفع معنوياته. لكنه رد في حسم: أنا مش عايز ابقي رجل! كان في نفس اللحظة يشد علي يدها للخلف. يريدها أن تبتعد به عن المدرسة. قالت له: مش انت كنت فرحان عشان حاتروح المدرسة؟ طيب المدرسة أهي،وحاتعرف أصحاب حلوين ومدرسين كويسين.. ولازم تبقي شاطر زي اخواتك! صرخ: مش عايز ابقي زي اخواتي! بدأ صبرها ينفد وقد دخل معظم التلاميذ فناء المدرسة. بينما لا يوجد في الخارج سواهما. لو سمعت الكلام ودخلت.. حاجي في الفسحة اشوفك واجيب لك معايا شيكولاتة! رد عليها بعناد: مش عايز شيكولاتة.. عايز ارجع البيت معاكي! نزعت يدها من قبضته الصغيرة،وبدأت تدفعه دفعاً نحو باب المدرسة. اسمع بقي.. ماتتعبنيش.. حاتدخل المدرسة يعني حاتدخل المدرسة. في غمضة عين وجد نفسه فعلاً دخل المدرسة،وأغلق البواب البوابة الكبيرة الحديدية،وبدأ التلاميذ ينتظمون في طابور الصباح. تشبث بحديد البوابة،رافضاً دخول أرض الطابور،وانهالت علي وجهه دموع ساخنة. أما هي فقد تظاهرت بالغضب من مكانها في الخارج،ورسمت علي وجهها الجميل تكشيرة. ادخل بقي.. ماتبقاش عيل! لأ.. أنا عيل! حاخلي بابا يضربك لما ترجع! لأ.. مش حايضربني! هزت كتفيها وقد أعيتها الحِيل. فاستدارت وأعطته ظهرها كأنها عائدة إلي البيت وحدها. سمعته يصرخ في ألم: إنت وحشة! مزقت صرخته قلبها. لكنها كانت قد أرسلت من قبل أطفالاً إلي المدرسة لأول مرة،وعادت إلي البيت من نفس الطريق،وسالت دموعها حزناً علي فراقهم في أول يوم دراسة،لكن الدموع كانت دائماً تجف،والأولاد دائماً يكبرون! انت وحشة.. يا ماما! عاد يصرخ من جديد. وهمست في نفسها: لازم تكبر يا حبيبي! الله يرحمك يا أمي.. اديني دخلت المدرسة ودخلت الغابة.. وخرجت منها.. مبسوطة؟!