حريٌّ بنا أن نعي وأن نتذكر، وسط ثقافة الصخب والهدير، والتطاول والتضليل أن نتذكر أن الكلمة مسئولية ؛ بل ومسئولية عظمي.. والكلمة ليست محض حروف من الأبجدية، وإنما هي معني موظف في عبارة، بيانًا لفكرة، وسعيًا لتنوير وسداد وإصلاح. الكلمة التي نزلت بها رسالات السماء، وصيغ القرآن المجيد، والكتب السماوية، وأحاديث ومواعظ ونورانيات الرسل والأنبياء، والتي تقيم التواصل بين الناس، وتوسدتها ترانيم ونظم الشعراء، وأناشيد المنشدين، وتصنيف الكتب والآداب والفنون والمسرح والقصة والرواية وكافة العلوم الطبيعية والوضعية والإنسانية. وهذه الكلمة هي ذاتها، عندما يُساء استخدامها، هي وسيلة الشتم والسب والصخب، والتضليل ودعوات الهدم والإهلاك، والإساءة لشرف واعتبار الناس، وهي تحقق باغتيال الشخصية بغير حق، ما لا تستطيعه أمضي الأسلحة فتكًا وحصدًا للأرواح، وإهلاكًا للنفوس والأبدان ! هذه الصلاحية »المزدوجة » أو»المتقابلة» للكلمة، هي التي دعت إلي احتفاء القرآن وكافة كتب الأديان بها، فوصف القرآن الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة، والكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة، وأن بها يُحق الله الحق، ويستدعي الالتفات إلي مسئوليتها، وإلي أن استعمالها مرهون بغايته، وأن استعمالها الهادف يرتفع بالكلمة الطيبة إلي أعلي عليين، وأن الاستعمال المنحرف والمتدني يهبط بها إلي أسفل سافلين ! تعالوا إلي كلمة سواء هذه العبارة آية من آيات القرآن الحكيم، تبقي الدعوة إليها موصولة ومتجددة ولازمة في كل زمان، ونحن الآن إليها أحوج. ومن سواء الكلمة اختيار الموضوع، فضلا عن أسلوب بيانه وعرضه، وهذا باب واسع لاجتهاد الأسوياء والمجتهدين، وإنارة العقول والسبل وتسديد الخطي، وأخذ الإنسانية بعامة إلي قيم الحق والكمال الجمال . من السواء التزام الأولويات، فمن الأغراض الخبيثة ترك الثابت الراسخ، إلي المرجوح والمهجور، وتقديم التافه علي المهم ناهيك بالأهم.. جاء نفرٌ من أهل العراق إلي عبد الله بن عمر بن الخطاب يسألونه في حكم »دم البرغوث»، فهاله تفاهة وتنطّع السؤال، فأجاب السائلين لافتًا ومنبهًا ومقرعًا : » قتلتم ابن بنت رسول الله وأتيتم تسألون عن دم البرغوث ؟!!! » هل رأيت أحدًا يتلو البسملة بعد تلاوة الآيات ؟! إن صياغة القرآن ذاته آية علي التزام الأولويات، فتري في فاتحة الكتاب أنها بدأت بعد البسملة بحمد الله رب العالمين، وثَنَّت بصفة الرحمن الرحيم، ثم قفت بأنه سبحانه وتعالي » مالك يوم الدين »، حتي إذا أوصلت هذه الرسالة الثلاثية، انتقلت إلي بيان عبادته والاستعانة به » إياك نعبد وإياك نستعين »، ثم إلي طلب الهداية إلي الصراط المستقيم » اهدنا الصراط المستقيم »، ثم قَفَّت ببيان هذا الصراط بأنه صراط الذين أنعم الله عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين أو المضلين. من خطاب الأولويات، أو ما يسمي فقه الأولويات، تقديم الأصول علي الفروع، والأهم علي المهم، والمهم علي غير المهم، وتقديم فرض العين علي فرض الكفاية، وتقديم صلاح الباطن ونقائه من الغش والرياء والكبر والنفاق، علي المظاهر والمراسم، وتقديم النهي عن الكبائر علي الاهتمام بالصغائر، وتقديم الفرائض علي النوافل، والسلم علي الحرب، والسماحة علي الحقد والثأر والانتقام، وتقديم مصالح الجماعة علي رغاب الفرد، ومقاصد الشريعة وغاياتها علي الوسائل والآليات. تجربة شخصية دعيت في منتصف تسعينيات القرن الماضي، إلي الحديث في ملتقي الفكر الإسلامي كما في رمضان من كل عام الذي يعقد في باحة الإمام الحسين رضي الله عنه، فاخترت موضوعًا لحديثي » عالمية الإسلام »، لا للفخر والتباهي بالإسلام، وإنما لبيان أن هذه العالمية تعني الامتداد بغير حد في المكان وفي الزمان إلي يوم الدين، وأن هذا الامتداد المكاني والزمني وخاتميته، فضلاً عن مخاطبته للناس كافة، يعني »مسئولية».. علي كل مسلم أن يعيها وأن يلتزم بغاياتها، وأن يتفطن إلي أن هذه »العالمية» قد اقتضت أن يكون الدين جاذبًا مُحَبّبًا، لا طاردًا ولا منفرًا، وهو لا يمكن أن يحقق هذه الغاية الكريمة إلاَّ بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة، لا بالذبح والقتل والعنف والإهلاك، وأنه لم يفهم الإسلام من يتوهم أنه خنجر أو مدفع أو قنبلة، أو يغيب عنه أن مرامه هو الهداية لا الأمجاد. إدراك هذه العالمية وموجباتها، لازم للمسلمين ولكل من يتشح بالإسلام قبل أن يكون لازمًا لغير المسلمين. واجب علي المسلم أن يفهم ذلك وأن يعيه، وأن يدرك أن هذه الخاتمية والعالمية ليست للوجاهة أو السلطان، أو الركوب علي رقاب الناس، وإنما هي مسئولية تستلزم من المسلم أن يراعيها في أخلاقه وشمائله، وسلوكه وسجاياه، لأن المسلم السوي هو رسالة الإسلام الحقة إلي الدنيا بأسرها. حين طرحت ذلك، قصدت أن نتبين معًا خريطةً لتجديد الخطاب الديني الذي كثر الحديث عنه، دون التفطن إلي مضمونه وأسلوبه، ودون إدراك أن هذا التجديد يقتضينا أن نستحضر مبادئ وقيم الإسلام، وأن ننصرف إلي استخراج جواهره وبثها إلي الناس. اخترت في حديثي الذي أفرغته بعد ذلك في سلسلة مقالات، بدأت في الجمهورية، وانتقلت إلي مجلة روز اليوسف، ثم إلي جريدة الأهرام، قبل أن أجمعها في كتاب »عالمية الإسلام» (2003)، اخترت بيانًا للخطاب الذي أتمناه، بعضًا من الموضوعات الدالة علي كمال وجمال وسماحة وحكمة وعدل الإسلام، والتي علي الخطاب الديني الصحيح أن يتغياها ويلفت الأنظار إليها. اخترت الحديث عن مضمون معني أنه » دين العالمين » من » رب العالمين » إلي الناس كافة، وأن القرآن المجيد هو روح الإسلام ومعجزته الممدودة إلي الدنيا إلي يوم الدين، وأن هذا الدين هو دين العقل والتفكير، لا الجمود ولا الانغلاق، وأن العلم هو روح الإسلام وحياة المسلمين، وكيف كان لهذا العلم أصداء في الحضارة الإسلامية وما قدمته للحضارة الإنسانية، وأنه دين العمل والعاملين، وليس دين البطالة والباطلين القاعدين، وأن أنداءه وعطره في منظومته الأخلاقية التي قامت في كل شمائلها علي »رعاية الآخر»، فهذا هو حال الأمانة والصدق والعدل والوفاء والحلم والإنصاف في الكيل والميزان إلي آخر كل الأخلاق القرآنية، فإنه يجمع بينها عنايتها ورعايتها وبذلها للآخرين، فإليهم تتجه كل هذه الشمائل واعية وراعيةً ومنصفةً. اقتضاني الخطاب الذي قصدته، بيان كيف أن الإسلام دين الحق والسلام، وأن الجهاد قد جُعِلَ فيه من أجل السلام، وأن آية ذلك »واحة العدل» التي أقامها، وتقديسه للروح، في الإنسان وفي كافة الكائنات، وحمايتها ورعايتها، وكيف كانت المساواة والإسماح من أجمل باقات هذا الدين، وكيف أن غايته الإنسانية العالمية دعته إلي الاهتمام بتنظيم علاقاته بالمجتمعات الأخري. الإسلام يا ناس عاودت مثل هذا السعي في »الإسلام يا ناس» (2013)، دعاني إليه تراجع الآمال التي كانت قد عقدت منذ يناير 2011، والظواهر المؤسفة التي تبدت، وادعاء العلم بالدين والافتاء فيه لمن لا علم لهم، فبدأت هذا الكتاب بفصول في علم أصول الفقه وما يقتضيه من أصول وطرق البحث في الأحكام واستخلاصها من أدلتها التفصيلية، ثم اخترت بعض الموضوعات التي جعل المتجمدون يفتون فيها بغير علم ولا إحاطة، فتناولت قضية »ختان الإناث»، التي يجهل المتقولون المبادرات والفتاوي المتتابعة الصادرة من الأزهر الشريف ومجامعه ومن دار الافتاء للنهي عن هذه العادة السيئة، وبيان مضارها، ومنها وليس آخرها، الفتوي التي صدرت عن دار الإفتاء في أكتوبر 2007، ونشرت بسلسلة الفتاوي الإسلامية المجلد / 39 ص 76 وما بعدها، وقدمت ثلاثة مبادئ، أولها أن تحريم ختان الإناث في هذا العصر هو الصواب الذي يتفق مع مقاصد الشرع، وثانيها أن ختان الإناث ليس في أصله قضية دينية تعبدية، ولكن مرجعه إلي موروث العادات والتقاليد الاجتماعية، وثالثها أن المقرر شرعًا أنه لا ضرر ولا ضرار.. كان لازمًا أيضًا تجديدًا للخطاب، لفت الأنظار إلي ما أبداه الأزهر أكثر من مرة، من وجوب عدم الخلط بين الفن وبين الوثنية، وأن ما حرمه الإسلام هو الشرك بالله، وأن ما حُرِّمَ من أصنامٍ وأنصابٍ وأزلام، هو ما اتخذ سبيلاً للعبادة، وهو ما كان قد أبداه فضيلة الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق علي شيخ الأزهر، وورد بكتاب الفتاوي الإسلامية طبعة المجلس الأعلي المجلد (10) ص 3455، وما أبداه الفقيه العالم المرحوم الأستاذ الدكتور رأفت عثمان بجلسة مجمع البحوث الإسلامية، من رد حكيم مؤيد بالحجج التي تنفي أن التماثيل الفنية المجردة فيها إشراك بالله أو مضاهاة لخلقه، والمناقشة المستنيرة التي دارت بجلسة مجمع البحوث الإسلامية في الثالث من يونية 2010، وتناولت بيان العديد من التماثيل المصرية الفنية التي لا علاقة لها بالشرك او العبادة، وأن علة التحريم السابق كانت العبادة والتعظيم من دون الله.. من نعم الله. أردت فقط أن أدلل علي أن الكلمة مسئولية، يجب علينا جميعًا أن نتحراها، وفاءً بحق المعرفة، وبحق الدين الذي طفق البعض يسيء إليه بغير علم ولا إحاطة، ولذلك حديث آخر .