أخطر ما تعرضت له الساحة السياسية المصرية بعد ثورة 25 يناير هو ذلك الخلط الغريب، والمريب، بين الداعية والسياسي بشكل يعيد للذاكرة شخصية د.جيكيل ومستر هايد التي تحكي عن طبيب يداوي الجراح في الصباح ويتحول الي سفاح في المساء! ربما يكمن سر هذا الخلط في صعود التيار الديني الملحوظ بعد الثورة واكتساحه للانتخابات البرلمانية والنقابية وسعيه للسيطرة علي الحكومة وحتي رئاسة الجمهورية.. والحقيقة أن هذا الخلط يحاول الجمع بين نقيضين .. فالأول من المفروض أن يتمتع بمواصفات قد لا يتطلبها بالضرورة موقع الثاني. منها، الصدق والأمانة والاستقامة، بينما يمكن ،وربما يجب، أن يتسم السياسي بالمراوغة والتحايل وحتي الكذب لأن الغاية عنده قد تبرر الوسيلة والسياسة هي فن الممكن علي عكس رجل الدين أو الداعية الذي لا يتصور أحد إمكانية أن يلجأ إلي وسائل قذرة لتحقيق أي هدف مهما كان نبيلا، ولا يمكن أن يتعامل مع الحياة، بوجه عام، إلا باعتبارها فنا ما ينبغي أن يكون من وجهة نظره، وهنا يحدث الصدام الحتمي بين رجال الدين والديموقراطية.. هذا الخلط بين النموذجين هو المسئول عن نقض جماعة الإخوان المسلمين لوعدهم بعدم خوض انتخابات الرئاسة. وهو الذي أفرز لنا مرشح الرئاسة السابق الذي وصف بأنه "مستجاب الدعاء" وبأن دعاءه علي حسني مبارك هو الذي يرجع إليه الفضل في سقوط الدكتاتور وليس دماء الشهداء وثورة الشعب المصري. وهذا التناقض أيضا هو المسؤول عن أزمة مرشح الرئاسة الداعية الذي أقر رسميا بأنه ينحدر من أبوين مصريين ثم أثبتت الوثائق أن والدته تحمل الجنسية الأمريكية! كما أفرز لنا هذا الخلط ذلك النائب البرلماني صاحب الأنف الشهير والذي كذب علي رؤوس الأشهاد بشأن واقعة إصابة أنفه دون أن يري في ذلك أي انتهاك لوضعه كداعية يدعو الناس للصدق والأمانة من علي منابر المساجد.. ولا يعني ذلك، بالتأكيد، أن رجل الدين أو الداعية الحقيقي يجب أن يكون زاهدا أو درويشا لا تشغله سوي أمور العقيدة والدين .. وفي نفس الوقت: ليس المقصود أن السياسي المحترف لابد وأن يكون عربيدا فاسقا. القضية ببساطة أن مؤهلات من يختار طريق الدعوة شديدة الاختلاف عن تلك المطلوبة في دنيا السياسة لأنها موقف من الحياة. هذه الاشكالية بالتحديد هي التي تقف وراء رفض العالم بأسره للدولة الدينية ليس كرها في رجال الدين بل تكريما وتوقيرا لهم من الخوض في أوحال مستنقعات السياسة وما تتطلبه في بعض الأحيان من مناورة وربما احتيال للوصول إلي الهدف. ولا يستطيع عاقل في هذا العالم أن يعتبر السياسة الايرانية، في الداخل أو الخارج، ناجحة، لسبب بسيط هو أن أصحاب السلطة والقرار في إيران ليسوا فقط من المتدينين بل من أصحاب المواقع والألقاب الدينية والمرموقة مثل آية الله وحجة الاسلام، وبالتالي يصبح الاختلاف معهم خطيئة لا تغتفر.. وربما كانت المشكلات الكبري التي تواجهها إيران مع العالم منذ اندلاع ثورة الامام الخوميني ترجع إلي محاولة القادة الجدد أن يلعبوا السياسة بقواعد الدين وهو ما يشبه محاولة لعب الشطرنج بقواعد المصارعة الحرة أو العكس. واذا كان الجمع بين الدعوة والحكم قد نجح في مرحلة تاريخية معينة وبالتحديد في صدر الإسلام إلا ان الدنيا تغيرت كثيراً، كما ان نتائج ذلك كانت مروعة ومنها اغتيال ثلاثة من الخلفاء الراشدين.. أيها السادة، العالم الذي نعيش فيه الآن ليس مدينة فاضلة.. إنه عالم تسيطر عليه المؤامرات والأطماع والاحتكارات التي تتطلب مواصفات خاصة للتعامل معها وهي أبعد ما تكون عن القيم الدينية. ولا يعني ذلك الغاء دور رجال الدين في كافة نواحي الحياة ومنها السياسة ولكن دورهم هو ان يكونوا بمثابة سفينة نوح التي تنقذ البشرية وتحدد لها طريق الخلاص من طوفان الظلم والقهر والاستبداد. وعندما تنجح هذه الجهود في تحقيق هدفها النبيل وتصبح الفضيلة هي دستور هذا العالم، عندئذ يمكن أن تكون هناك حكومة دينية علي غرار حكومة الفلاسفة أيام الإغريق.. أما قبل ذلك، فليترك رجال الدين والدعاة مستنقع السياسة والحكم لمن لديهم القدرة علي التعامل مع هذا العالم باللغة التي يفهمها ووفقا للقواعد والقوانين الدنيوية التي تحكمه.