تُعد الهوية الثقافية والحضارية من أهم السمات والملامح المميزة للمجتمع، فالهوية هي التي تجسد الطموحات المستقبلية وهي البوصلة التي تُبرز معالم التطور في سلوكيات الأفراد وانجازاتهم في كافة مجالات الحياة. وتعرف الهوية بأنها الاطار الكلي الحاضن لمجموعة المفاهيم والقيم التي حكمت انجازات الأمة في خبرات تاريخية متميزة تتشكل بمقتضاها وعي الإنسان وثقافته المادية والفكرية.. وتستند الهوية الثقافية والحضارية لمجتمع ما إلي أصول تستخدمها ترتكز علي منظومة من المعايير تجتمع فيها القيم الاجتماعية والمبادئ الأخلاقية والضوابط المجتمعية وتعبر عن السلوك الحضاري الكامن بداخلها.. وتعني الهوية في مجتمع ما حضور كل من: التاريخ الثقافة الفكر الإرادة في صناعة الفعل الحضاري القائم علي التنوير والتحضر وصناعة المستقبل، ومن ثم تشتمل الهوية علي الموروث الحضاري للمجتمع في مراحل التطور التاريخي بما تجسده من دلالات لعلاقة الإنسان بالمكان والزمان، وثقافة المجتمع بما تحمله من توجهات وقيم إيجابية، ودوافع لقوي التحرر الإبداعي والتميز والتفرد الأصيل في مجالات الفكر والفن والأدب والثقافة والمعرفة والعلم والذي يدل علي: الاعتزاز بالتاريخ الخاص به. الانتماء لثقافة تنويرية أصيلة. تبني قيم اجتماعية داعمة لإرادة العمل الجمعي. التماهي في وجدان الأمة والتفاخر بتفرد الهوية. ومن هنا يحدد مفهوم الهوية علاقة المواطن بالأمة وأداته هي الانتماء إلي الأمة ونشأته في الوطن الذي هو جزء منه ونتاج لما تمتلكه الأمة من قيم ثقافية ومن آراء ومعتقدات وتقاليد ومبادئ أخلاقية ومعايير سلوكية، وهو ما يشكل في النهاية موروثا ثقافيا وحضاريا وتراثا زاخرا يجب أن يكون منطلقا لا مقيدا؛ بمعني التطلع إلي المستقبل دون احداث قطيعة مع الماضي.. ويُعد التراث الحضاري الفاعل من أهم عناصر التحرر من الماضي العتيق القابل للمناقشة والنقد في سبيل التطوير والتقدم، والانطلاق نحو الحداثة.. ولأن الهوية ترتبط بشخصية الأمة فإنها تُستخدم في المجال الفكري والابداعي بالمعني الذي يميز شخصية الأمة ويحدد ملامحها ويميزها عن غيرها، ويمكن رصد أهم ملامح الهوية فيما تتميز به من خصوصية مستمدة من التراث الثقافي والحضاري لمجتمع ما، ذلك التراث الذي يرتكز علي عناصر أصيلة تتمثل في: منظومة القيم الاجتماعية التي تحمل في ثناياها موروثا ثقافيا من التقاليد والعادات والأعراف والسنن التي تؤمن بها الجماعة الاجتماعية وهو ما يُعرف في مجال العلم الاجتماعي ب « الموروث الثقافي المتوارث عن الآباء». الأحكام والشرائع المنظمة للجماعات الاجتماعية. الخبرات والتجارب العملية والشعبية التي تتناقلها الأجيال في ممارسة الحرف والأعمال اليدوية. طموحات الشعب وتصوراتهم عن ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم. ويتضح هنا أن الهوية من خصوصية الحضارة، ويمكن أن تعبر عن شخصية الأمة بثقافتها، إنها تعني « ضمير الأمة» ونظرتها للكون والحياة والمواقف والأحداث الدائرة من حولها ومن ثم فالهوية تمثل الطابع الثقافي والحضاري للمجتمع. والسؤال الأجدر بالمناقشة يتمثل في تحديات الهوية واشكالياتها، بمعني التناقض بين الأصالة والمعاصرة، فالسؤال المطروح دائما: هل توجد في أي هوية عناصر مناعة ضد التفاعل مع مقتضيات العصر؟ وما موقفنا كعرب من تراثنا أولا ومن آليات الاختراق الثقافي خاصة في عصر دعوات العولة وهيمنة صانعيها ثانيا؟ بمعني آخر هل تلغي المعاصرة ذاكرة الأمة (الهوية) ؟ للإجابة علي تلك التساؤلات يمكن رصد أهم اشكاليات الهوية الثقافية والحضارية في عدد من النقاط ستكون موضوع المقال القادم.