سنوات عديدة جمعتني مع ليل المدينة ، أعشق قدرته علي التمدد حتي حواف الحلم . غير أنه تحول فجأة إلي عالم مخيف ، ليلة السبت 29 يناير 2011 تحتل مكانا مميزا في الذاكرة حتي الآن . إنها أولي ليالي الرعب التي كادت تلتهم ما في قلوبنا من بقايا الشجاعة ، نمر بين كتل الأسمنت التي تحدها إحدي دور القوات المسلحة ومقابر تضم قصرا ملكيا معدا لاستقبال الرئيس ( الذي صار الآن رئيسا أسبق ) بعد عمر طويل! في الثالثة صباحا أعتذر للساهرين بأنني مضطر أن أغادر ثكنة الحراسة الخاصة بنا للنوم لارتباطي بعمل في الصباح التالي ، لا أنسي أن أطلب منهم إيقاظي في حالة الضرورة . أغفو للحظات امتدت بعض الشيء قبل أن أصحو منزعجا علي استدعاء طاريء ، الإشارة المتفق عليها في حالة الخطر انطلقت فجأة . قفزت من سريري وعدوت إلي الخارج بملابس نومي وفي يدي سلاحي الذي اخترته واستمر معي لمدة أيام . عندما وصلت إلي أول الشارع كان كل شيء قد انتهي . كل مافي الأمر أن هناك دراجة بخارية كانت تقترب مما أثار قلق الساهرين ! في الليالي التالية كنا قد تجرعنا قدرا لا بأس به من الخوف ، كما أصبحنا أكثر خبرة خاصة بعد أن بدأت ملامح المؤامرة تتضح . هنا تخلت الليالي عن برودتها لصالح دفء بدأ ينبعث وينتشر في ربوع الوطن . اكتسب الليل نكهة سحرية ومنح غابات الأسمنت التي نقطنها مسحة إنسانية كانت قد غابت في دهاليز الزمن . اتسعت الشوارع للملايين ، وبعد أن كان الزخم البشري قاصرا علي ميدان التحرير ، امتد أفقيا ليشمل كافة الأحياء . واتسعت الشوارع لأناس كانوا يمرون عليها مرورا عابرا دون أن يتذكروا ملامحها رغم أنهم عاشوا فيها لسنوات . تحولت المجالس إلي ساحات رأي وتزايد عدد المعارضين للنظام . لكن الجميع اتفقوا علي أن آخر خدمة قدمها قبل انهياره تمثلت في استعادة حميمية توارت في ذاكرة كبار السن ، ولم يكتب للصغار أن يتذوقوا طعمها من قبل . ديسمبر 2012 علي السادة المقيمين داخل القصر مراعاة فروق التوقيت ! تنبيه لم تأخذ السلطة به طوال السنوات الماضية ، وأثبت السابق أنه ليس أفضل حالا من الأسبق . تتردد أخبار عن اجتماع الرجل القوي في الجماعة الحاكمة بأنصاره في الجماعات الأخري . لا يحتاج الأمر مهارات استثنائية للتنبؤ بما سوف يحدث . المظاهرات الحاشدة التي رفضت الإعلان الدستوري أفقدت التنظيم توازنه وفندت أكاذيبه. تتمدد الليلة الشتوية بكآبتها لتصل إلي حدود الكوابيس ، وبعدها بساعات تطل علينا مذبحة الاتحادية بوجهها الدموي ، ونعود لاجتراع الألم . لكن ملامح مشهد وليد تتمخض عن نبوءة : النظام الجديد يوشك أن يلحق بسابقه ! سبتمبر 2013 ترتحل الأحداث من الشتاء لتصل إلي ليالي الصيف ، تبدلت الأمور وزادت وبعد عامين من تعاطي السياسة أصبح كل منا محللا استراتيجيا ، تضاعفت قدرتنا علي ضخ الكلام ، وتخيل كل متحدث أنه يملك الحقيقة المطلقة . أشعر بالضجر من متابعة الفرقاء ، أقرر التحلي بالصمت ، وأكتب عبارة موجزة علي الفيس بوك : لو أن الشك هو مشكلتنا لوجدنا له حلا .. أزمتنا أن كلا منا مصاب .. باليقين !!