الغسيلُ هو إزالة ُشئ ما لا يُراد ظهورُه، حتي لا يبدو علي السطحِ إلا ما يريحُ الذاتَ أو ما يرُضي الآخرين، أو كِلاهما. بالتالي، لا يرتبطُ الغسيلُ بالمادياتِ الملموسةِ من ملابسٍ وأوانٍ وأرضياتٍ وحوائطٍ، فهو أشملُ بكثيرٍ، وقد درَجَ عالميًا مصطلحُ غسيلُ الأموالِ money laundering للدلالةِ علي إظهارِ واجهاتٍ نظيفةٍ شريفةٍ لأموالٍ مصادرُها غيرُ ذلك، مثل فتح مكاتبٍ ومحالٍ شهيرةٍ فخيمةٍ لاستثمارِ أموالِ تجارةِ مخدراتٍ أو سلاحٍ أو بشرٍ، بحيث تكون غطاء ظاهرًا لنشاطٍ خفيٍ وتبدو مصدرًا كاذبًا لثراءٍ كاسحٍ، حتي لو لم تحققْ ربحًا حقيقيًا. الغسيلُ إذن في مفهومِه غير المرتبطِ بالمادياتِ، هو إخفاءُ واقعٍ مَرفوضٍ أو مُخجلٍ بإظهارِ واجهةٍ مُخالفةٍ تُبديه جميلاً صحيحًا، لا خجلَ منه ولا عُقَدَ ولا مُركباتِ نقصٍ. الغسيلُ بهذا المفهومِ ليس عملاً محترمًا ولا يكون إلا في بيئةٍ غيرِ سويةٍ تسمحُ به، أو تتسامحُ معه، بيئةٌ لا قانونَ فيها، الانتهازيةُ أهم وسائلُها. وقد عرفت مصر كل أنواعَ الغسيلِ وأضافَت إليه من خصوصياتِها، ولا ننسي أثرياءَ الانفتاحِ وتوظيفِ الأموالِ وتجارةِ العملةِ والشنطةِ الذين بنوا في الممنوعِ وافتتحوا تحت الأضواءِ المبهرةِ، وكلُه تحت شعارٍ شاعَ، أنجَرُ الفتة. ومع مرور الوقت وتغَيُر النفوسِ والأزمنةِ ومع انتشارِ مبدأ "الحمرأة" ظهرَ غسيلٌ جديدٌ في المجالِ التعليمي والوظيفي، غسيلُ الشهادات. لتأكيدِ المعاني قبلَ دخولِ التفاصيلِ، الحمرأةُ هي التَمَسكُن والطأطأةُ عند الحاجة والتَنَمُرُ وقت المقدرةِ أو تصورِ المقدرةِ. ولنتوغل الآن في التفاصيلِ. الثانوية العامةُ بما لها وما عليها هي المعيارُ الأعدلُ لتوزيعِ الحاصلين عليها، تعليم عال أو متوسط، علمي أو أدبي. لكن مع مصطلحِ أو تصنيف الكلياتِ إلي قمةٍ وقاعٍ، وبالتالي التفرقةُ بين الخريجين اجتماعيًا، ومهاريًا، ظهرَت العُقدُ الاجتماعيةُ. فمن يدخلُ كليةً بمجموعٍ متدنٍ يظلُ طوال عمرِه منعوتًا بما لا يحبُ، لا بدَ إذن من مخرجٍ يتفقُ مع الفهلوةِ والفتاكةِ المصريةِ حتي لو كان شاذًا نشاذًا متخاصمًا مع جري عليه العالمِ، ومن هنا ظهرَ غسيلُ الشهاداتِ، بالذوق وبالعافيةِ خاصةً في هذه الأيامِ التي تحكمُها الغتاتة والغوغائيةُ وحكمُ الشارعِ. مظاهراتٌ واعتصامات أمام وزارة التعليم العالي ومجلس الشعب وفي الجامعات، لماذا؟ للحصولِ علي شهادةٍ أخري أو لقبٍ وظيفي غير مستحقٍ. طلابُ أقسام الهندسة الزراعية بكليات الزراعةِ يريدون دخول نقابة المهندسين، فهم يرون أنهم مهندسون، الحكايةُ بدأت بمجموعٍ أوصَلَ إلي كليات ِالزراعةِ بلائحتِها الدراسيةٍ وانتهَت بالمطالبةِ بلقبِ مهندسِ. نفس الوضعِ بدأ بأقسام ٍللحاسباتِ في كلياتِ العلوم بمجموعِها ثم تحولُها إلي كلياتٍ للحاسباتِ والمعلوماتِ بمواصفاتِها ولائحتِها وبمجموعِها، وانتهَي إلي أن خريجي وطلاب كليات الحاسبات والمعلومات أطلقوا علي أنفسِهم مهندسين بوضعِ اليد، كيف؟ لأنهم يَدرِسون هندسة برمجيات software engineering فتمسكوا بلقب مهندس، في غير إطارِه ومعناه وتعريفِه ومواصفاتِه، وأغفلوا لقب مُبَرمِج programmer. وكأن الألقاب الوظيفيةِ تخضعُ للهوي الشخصي وليس المعاييرِ العالميةِ. حدوتةُ سخيفةُ تكررَت وتكررَت، بدأت مع طلاب المعاهد الفنية العليا التي أُنشئت بغرضِ تخريجِ فني علي قدرةٍ مهاريةٍ ليست نظريةٍ، وبلائحةٍ دراسيةٍ أُعِدَت لذلك، وانتهَت بمظاهراتٍ واعتصاماتٍ للحصولِ علي لقبِ مهندس. نفسُ الحالِ، خريجو المعاهدِ الفنية للقوات المسلحةِ يريدون معادلةَ شهاداتِهم بتلك الممنوحةِ من كلياتِ الهندسةِ، لماذا لا تُعادلُ شهاداتُهم بشهادةِ الكليةِ الفنيةِ العسكريةِ لو كان ذلك ممكنًا؟ هو كده في زمن اللامنطقِ. وأيضًا حكايةُ معهدِ الكفايةِ الإنتاجيةِ التي انتهَت بالمعادلةِ مع بكالوريوس الهندسةِ بعد استيفاءِ عامين دراسيين إضافيين، وبعدها تمت تصفية المعهد! العنوانُ الرئيسي المُعادُ بنفسِ السيناريو، الالتحاقُ بدراسةٍ بمجموعِها والقبولِ بشروطِها مؤقتًا بنيةِ "الحمرأة" لتحسين الأوضاع بالقفزِ إلي شهادةٍ أخري وبمُسمي وظيفي آخر. ابتذالٌ للشهاداتِ الدراسيةِ والألقابِ الوظيفيةِ، وكأن أصحابَ المهنِ اليدويةِ هم القدوةُ لما أطلقوا علي أنفُسِهِم ألقابَ مهندس ودكتَرة وكفاءة. خريجو وطلابُ كليات العلاجِ الطبيعي، اعتبروا أنفسَهم أطباء، الصيادلةُ يصفون الأدوية، صحةُ المريض لا تهمُ، هوجة. طلابُ الجامعاتِ والمعاهدِ الخاصةِ وبعض الجامعات الحكومية يُسَجِلون للدراسات العليا من دبلوم وماجستير ودكتوراه في جامعات القاهرة والإسكندرية وعين شمس حتي تُنسي شهادَتُهم الأسبق، غسيلُ شهادات، المهمُ آخرُ شهادةٍ، لا غرابةَ من تدني مستوي الدراسات العليا أيضًا، خاصةً مع عدمِ قدرةِ الإداراتِ الجامعيةِ علي قبولِ نتائجٍ مُتدنيةٍ للامتحاناتِ، وكذلك مع رغبتِها الغالبةِ في تحصيلِ رسومٍ عن الدراساتِ العليا ولو تواضعَ مستوي المتقدمين. أما منحِ درجاتٍ علميةٍ قبل اتباع إجراءات المعادلةِ فقد درجَت عليه بعض الجامعاتِ عملًا بسياسة الأمر الواقعِ، بإتاحةِ شهاداتٍ بوضع اليدِ، وعلي المتضرِرين، وهم جمهورُ الطلابِ، التظاهرُ والاعتصامُ، أمام الوزرات، في الجامعاتِ، في أي مكانٍ، باعتبارِها وسيلة الحصولِ علي المعادلةِ، الغسيلُ. وكأن الجامعاتِ كمؤسساتٍ تربويةٍ تسلك نفس النهجِ الذي نعيبُه، لحساباتِها الخاصةِ جدًا. وكدأبِها، ساعدَت بعض الفضائياتِ علي شيوعِ مفهومِ غسيلِ الشهاداتِ وروجَت له طالما أن الموضوعَ تربيطاتِ في تربيطاتِ، ثوريو غسيل الشهادات مع فضائيين، المهم الدوشة والزيطة حتي في أمرٍ أكاديمي بحت، له معاييرُه العالميةُ وقواعدُه، التي لا تؤدي مخالفتُها إلا إلي استمرارِ تدهورِ سمعةِ التعليمِ المصري وخريجيه. يظهرُ الفضائيون وكأنهم فاهمون جدًا ومُهتَمون بالقوي، ويظهرُ ثوريو غسيلِ الشهاداتٍ صائحين بمنطقٍ مُعوجٍ، مُتباكين علي ما يُظهرونه ظلمًا وعدمَ فهمِ الدولةِ لهم، وطبعاً مظاهراتُ واعتصاماتُ الطلابِ جاهرةٌ ومُستعدةٌ، أليسوا المستقبلَ، أليست ثورةً. في مصر، كله يروح في الغسيل، كلُه يَغسِلُ، وكله يُغسَلُ، كلُه بالحَمرأة. غسيلُ شهاداتٍ certificates laundering مصطلحٌ مصريٌ. غسيلُ ماضي، كلُهم ثوريون اليوم. غَسيلُ تاريخٍ، بلدٌ كُتِبَ تاريخُه منذ آلاف السنين، يُعادُ الآن تصويرُه وصياغتُه. ولسه، ما أكثر ما في الجرابِ من غسيل.