سلسلة من السقوط والهدم بدأت عقب رحيل مبارك ولم تنته بعد..إذ لاتزال المطالبة بإسقاط جميع المؤسسات والرموز السياسية قائمة..مما يقر بواقع مضطرب ومستقبل مظلم. أشبه بمجتمع تعلو فيه قوانين الغابة علي أن يكون البقاء للأقوي.. وبالرجوع قليلا إلي الخلف نستعرض في بداية الموضوع حلقات لمسلسل طويل من الإسقاط للمؤسسات والأشخاص والذي لم تكتب له النهاية حتي بعد رحيل النظام السابق..والذي يعقبه تحليلات اجتماعية سياسية متباينة لواقع الشارع المصري من قبل الخبراء.. سقط مبارك في11 فبراير2011 ذلك اليوم الذي أعلن فيه اللواء عمر سليمان تنحيه عن الحكم ليتولي المجلس العسكري شئون البلاد, وعلي الرغم من إعلان المجلس عن نيته لتسليم السلطة لرئيس مدني منتخب إلا أنه تعالت الصيحات لنحو عام ونصف للتنديد بحكم العسكر والمطالبة بضرورة إسقاط المجلس العسكري, ثم سرعان ما تحول التأييد الثوري للدكتور عصام شرف- الذي لم يمكث في منصبه كرئيس للوزراء سوي9 أشهر- إلي موجة غضب عارمة انتهت باستقالته في22 نوفمبر من نفس العام, وهو نفس السيناريو الذي تكرر مع الدكتور كمال الجنزوري الذي كلفه المشير محمد حسين طنطاوي بتشكيل حكومة تسيير أعمال خلفا لشرف لحين انتخاب الرئيس. ولم تسلم التعديلات الدستورية التي أقرها المجلس العسكري بغرض التمهيد لانتخابات تشريعية من صيحات الإسقاط ونداءات التشكيك التي أدت لتصويت البعض ب لا في استفتاء19 مارس, إلا أن الأصوات المؤيدة للتعديلات أدت إلي إجراء انتخابات تشريعية حظيت علي نسبة كبيرة من الرفض والطعن في شرعيته أمام القضاء بعد حصول جماعتي الإخوان المسلمين والنور علي نصيب الأسد من مقاعد البرلمان الذي عقد أولي جلساته في23 يناير2012, حتي تم الإعلان عن بطلانه من قبل المحكمة الدستورية العليا في14 يونيو من نفس العام, وفي أثناء تلك الفترة تم انتخاب مجلس الشوري الذي لايزال يواجه حربا شرسة حتي الآن. أما عن اللجنة التأسيسية للدستور والتي تكونت من100 عضو من مجلسي الشعب والشوري وشخصيات أخري من خارج المجلسين, فقد نالت أكبر قدر من الاضطرابات والمطالبة بحلها, مما عرقل مسيرة صناعة الدستور, حتي استطاعت صياغته بالكاد, ولم يلبث أن يري الدستور النور إلا وحكم عليه بالإعدام من قبل البعض الذي لا يزال غير معترف به حتي الآن ويأبي تعديله بالآليات المشروعة والمنصوص عليها في مواده بل استئصاله من جذوره وإهدار ما بذل من جهد لصياغته طوال6 أشهر. ومع انطلاق ماراثون الانتخابات الرئاسية, والذي انتهي بفوز الدكتور محمد مرسي ثار البعض بحجة تزوير الانتخابات كما أنه لم يمكث سوي بضعة أشهر في الحكم إلا واحتشد المتظاهرون في الشوارع والميادين مطالبين بتعديل سياساته ثم أخذت المطالبات طريقها للتصعيد حتي انتهت بهتافات رحيل النظام رئيسا وحكومة تحت مسمي انتخابات رئاسية مبكرة.. في البداية يقول الدكتور فتحي الشرقاوي-أستاذ علم النفس السياسي بجامعة عين شمس- إن الشخصية المصرية قد طرأ عليها العديد من التغيرات بعد25 يناير, فامتثال الرمز الممثل في سلطة مبارك إلي جانب السياسات القمعية التي استمرت لنحو ربع قرن من الزمن أدت إلي حمل أي شيء يحمل معني السلطة إلي الجحيم الأبدي سواء كانت سلطة سياسية أو اقتصادية أو والدية أو سلطة عمل. ويضيف أنه أصبح من الطبيعي أن نجد كل صور التمرد من الصغير تجاه الكبير, وبالتالي فالحل لا يكمن في الحديث عن عدم تقدير المصريين للرموز ومن ثم السعي لإسقاطهم, بل أن تدرس السلطة السيكولوجية الجديدة للشعب المصري بعد الثورة, والتي تحتاج إلي المرونة في التعامل والمشاركة في صنع القرار وليس مجرد تنفيذه فحسب, فضلا عن منح المواطن المصري المكانة الاجتماعية والمعنوية والاعتبارات الشخصية قبل التفاعل معه. وعلي جانب آخر, أقر الشرقاوي بعدم جواز الحكم بالإعدام علي كل شيء, فالإسقاط لا يجوز إلا للشيء الفاسد والفاشل تماما, ولكن هناك جوانب إيجابية لابد أن نبحث عنها, قائلا:ما لا يدرك كله لا يترك كله, وبالتالي فإن المبالغة في المطالبة بإنهاء كل شيء لابد أن يواجه بحزم من السلطة, والتي لو كانت فعلت منذ البداية لما وصلنا إلي هذه المرحلة المشبعة بالرفض التام لكل شيء. ويفسر الدكتور عبد الحميد زيد أستاذ الاجتماع السياسي بكلية الأداب جامعة الفيوم- سلوك الرفض المتواصل الذي ينتهجه البعض إلي عدم الثقة في النظم السياسية والسلطة الحاكمة سواء المجلس العسكري أو الإخوان المسلمين, وذلك بعد أن ذاق الشعب مرارة حكم دام لمدة30 عاما, إلي جانب الإحباط الشديد الذي أصاب الكثير من المواطنين من جراء الإجراءات التي تم اتخاذها من وقت تنحي الرئيس السابق مبارك والتي لم تحقق أي انجاز ملموس يغير من حياة المصريين حيث لايزال الأمن غير مستقر ولاتزال مستويات المعيشة متردية, في الوقت الذي تتفاقم فيه أزمات أخري. ويشير إلي وجود نوعين للتغيير, النوع الأول هو التغيير المنظم التدريجي الذي يسبقه تخطيط وتقدير جيد للإمكانات والاحتياجات, والذي يعد بمثابة الخطوات الإصلاحية الواضحة,أما الثاني فهو التغيير الجذري الثوري الذي لا يعرف التخطيط, ويتضمن حركات احتجاجية غير منظمة والتي تستمر لحين تحقيق مطالبها في القضاء علي المشكلات, وهو نظام التغيير المتبع في الوقت الحالي. ويؤكد أنه لا سبيل للخروج من هذه الدائرة المفرغة الحافلة بنداءات السقوط والهدم, سوي بإدراك السلطة ضرورة امتصاص غضب الشعب من خلال حل مشكلاته, منوها إلي أن هذا السلوك لن يؤدي إلي إسقاط الدولة, لأنه بديهي وناتج عن جروح وآلام تأصلت في الشعب المصري علي مدار سنوات. من جانبها تقول عواطف أبو شادي أستاذة العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية- إن سعي البعض للمطالبة بإسقاط الرموز والمؤسسات يرجع إلي عدم شعور الشعب المصري بالتغيير المنشود والذي طالما حلموا به بعد أن علقوا آمالا عريضة علي الثورة المصرية معتقدين أنها ستأتي بأنهار اللبن والعسل, خاصة بعد أن أذيعت أخبار عن استرداد ملايين الدولارات مما استولي عليها النظام السابق لتعود لشعب مصر, إلا أنهم فوجئوا بواقع يشهد بتدهور الأوضاع علي مستوي الأفراد أنفسهم وذلك بسبب غياب الرؤية وعدم تبني خطط واستراتيجيات واضحة من أجل تحقيق التقدم المنشود للبلاد سواء من قبل القائمين علي شئون البلاد أو المعارضة. وتشير إلي أن البعض يلجأ لإثبات وجوده علي الساحة السياسية من خلال سلك طريق التحدي والمطالبة بالإسقاط كنوع من الاحتجاج النابع من الفراغ السياسي وعدم وجود بديل يستطيع تنفيذ المطالب وتحقيق الأمنيات, لافتا إلي أن هذا السلوك تسيطر عليه حالة من التخبط والاضطراب والشيزوفرينيا تجعل رفيق الأمس عدو اليوم, وهو ما حدث مع رئيس الوزراء الأسبق عصام شرف الذي استقبله تأييد شعبي منقطع النظير وسرعان ما تحول هذا الدعم إلي هجوم شرس بعد استشعار عدم قدرته علي تحقيق الأحلام. وفي سياق متصل يوضح المفكر السياسي الدكتور محمد ماهر قبيل أن حالة التخبط والسلوك العشوائي الذي يعم البلاد يرجع إلي عدم وجود رأس أو قائد للثورة المصرية يعبر عن إرادة الشعب ويلتف حوله الجماهير ويطمئنوا إليه في تحقيق أحلامهم, بينما انفجرت الثورة تلقائيا نتيجة تراكم عهود الظلم والاستبداد, والانفجار لا يعرف الضوابط ولايمكن السيطرة عليه. ويضيف أن الشعب أصبح في حيرة من أمره بعد قيام الثورة, حيث لم يجد في أي وجه من الوجوه التي تولت المسئولية المثل المنشود لتحقيق التغيير, مما أصابه بالإحباط مثل من يبحث عن سائق لسيارته وكلما أتي بسائق يجده لا يجيد القيادة فيقرر إقالته. وتوقع الدكتور عاطف سالم أستاذ القانون الدستوري بجامعة عين شمس- توابع مؤسفة وخطيرة إذا ما استمر الوضع علي ما هو عليه, لافتا إلي أن الاستجابة لمطالب وأد المؤسسات وإسقاط الرموز ستؤدي إلي ضياع مفهوم الدولة, ولن يمكث رئيس في الحكم سوي أيام, كما لن تكون هناك مؤسسات وسنشهد فوضي لم نرها من قبل. ويوضح أنه بعد التأكد من عدم رجوع السياسات القمعية مجددا والدليل علي ذلك ما يشهده المجتمع من تسيب غير مسبوق وديمقراطية تجاوزت كل حدود الحرية والتعبير عن الرأي, فلابد من السعي للانتهاء من تكوين الدولة بمؤسساتها وقوانينها ثم فتح باب الاعتراض وفقا للآليات المقننة للحرية بما لا يضر الآخرين, منوها إلي نجاح منظومة القوات المسلحة لأنها تدار بمبدأ تنفيذ الأوامر في المقام الأول ثم فتح باب النقاش والاعتراض كمرحلة تالية, الأمر الذي يضمن استمرار عمل المؤسسة وتحقيق مطالب أعضائها, وهو ما يختلف عن اسلوب إدارة بقية مؤسسات الدولة التي بات الاعتراض والفوضي والدعوة للإسقاط, الخطوة الأولي والأخيرة في مواجهة أي قرار. رابط دائم :