عندما ينسي الانسان دوره الحقيقي, فلا يكف عن إشاعة الاضطراب والفوضي فيما حوله, ويعمل علي نشر الانقسام وسوء التفاهم في الوسط الذي يعيش فيه حيث يتعمد التدخل المتعسف في شئون غيره, والصيد في الماء العكر.. فلا تستقر علي حال!! من هذا المنطلق تنشأ الزمبليطة الفكرية تلك التي بدأت تنتشر بين الذين يتحاورون أو يتبادلون وجهات النظر.. مما قد يؤدي إلي انتشار الاضطراب في التفكير والبعد عن الوصول إلي وجهة نظر تعتمد علي الموضوعية وتقرأ وجهات نظر الآخرين بأمانة وصدق ومعقولية واتزان سليم. والانسان بوصفه الموجود البشري أعطيت له حرية الاختيار والقدرة العليا علي التنظيم والتنفيذ, ومن هنا أعطيت له( اللغة) والتي تعتبر من أشد المقتنيات خطرا, فهو يستطيع من خلالها أن يحقق الوصال وأن يبني ويهدم وأن يظهر وان يختفي.. ومن خلال نسيج اللغة تتكون علاقاته فينسج ايضا علي منوال المودة حبا عظيما, أو قد يحول النظر إلي المنوال الآخر فنراه يغزل بدافع الكره كل ما يؤدي إلي الفرقة وينشر الأحقاد المحطمة للنسيج البشري. * وتعد اللغة كمسار وجداني من أهم مقتنيات الانسان ولعل هذا يحدد بعضا من قيمة الانسان فهو قد ميزه الله سبحانه وتعالي بالنطق والوعي والإدراك والتمييز والفهم المبني علي فطرته الطيبة, فاذا تكلم فهو يعبر بمعني ما من المعاني وبشكل ما من الأشكال عن خبرته وثقافته وفرحه وألمه وقيمه وتطلعاته.. ويتضح في كل هذه المواقف التعبيرية ذلك الأسلوب فيفصح من خلاله عن الحضن الاجتماعي الذي قام علي تربيته في مرحلة التنشئة الاجتماعية. والحوار الذي يتم بين الانسان وأخيه الانسان هو ذلك الحوار الذي يقتضي أن يكون الوصال بين الانسان وزميله في الانسانية علي درجة عالية من الفهم الواعي والادراك, وأن تكون الحساسية الخلقية بمثابة الدرع الواقي الذي يجعل الانسان في صورته المحترمة أمام الآخر ويدفع بالآخر إلي أن يتبادل معه أطراف الحديث من خلال حوار يسوده الود والاحترام المتبادل والتقدير الواعي بمقدرات الانسان ومن هنا لا تكون اللغة أصيلة إلا من حيث هي حوار فاذا كان ما يعنيه المتكلم من اللغة لا يعدو أن يكون نسق الكلمات وقواعد تركيب الكلام فإن هذا الأمر يمثل الجانب الخارجي للغة, ولكن الحوار الذي نعنيه هو الكلام مع الآخرين, فيصبح الكلام هو الوسيط بيننا وبينهم فيجمعنا علي الخير اذا كان لائقا ومتمشيا مع القيم والأصول الخلقية وقد لا يحدث هذا الأثر الخلقي فتنسلخ لغة الحوار ويصبح الكلام بمثابة( مبارزة لفظية) الغلبة فيها لمن يخرج علي قواعد الأدب وما تتطلبه الأخلاق الحميدة من ذوق وحرص وانتقاء للألفاظ فيهدم بهذا الخروج الجامح في زحمة ألفاظه الغائرة الفظة كل ما يمكن أن يخدم المعني والفكرة ويعبر عن الخلق القويم. * واللغة في مسارها الحواري تحتاج إلي ان يكون لدينا الصبر والقدرة علي تحمل الاستماع بموضوعية, وأن نجرد أنفسنا ونحن نستمع إلي الآخر من الاحساس الذاتي الذي قد يسيطر علينا فنوظف كل الألفاظ والمعاني لمصلحتنا أو نخضعها لعوامل التأويل المسرفة في الذاتيةsubjectivity وإذا كنت أطالب الآخر أن يسمعني بموضوعية فان الواجب علي أيضا أن أطالب الآخر بأن يسمعني بعد أن أعطيه نفس الفرصة بحيث نتحاور معا ونتفاهم معا ونتحد علي كلمة سواء ملؤها عبارات تعبر عن الحق من خلال حوار تستند وحداته علي الوصال السليم وترتكز أبعاده علي التفاهم المثمر الواعي بين الانسان وزميله في شبكة العلاقات الانسانية وعندما تبتعد لغة الحوار عن مسارها السليم فإن الاعاقة الخلقية تحدث ويبدأ أثرها في الظهور ويكون هذا الأثر نذيرا بالفوضي أو التمرد أو الاختلال العقلي ولعل ذلك ما يجعلنا نؤكد علي أهمية الحرص علي لغة الحوار وانتقاء ألفاظ الكلام والدقة في اختيار المعاني والحرص علي الاحساس العام والذوق العام عندما نتشدق بالألفاظ, لأن كل اضطراب يلحق باللغة بفضل إغفالنا للبعد الخلقي يؤدي إلي خلل في لغة الحوار السوية أو قد يؤدي إلي وقوع قطيعة بين الانسان والآخر!! وتتجلي الزمبليطة في لغة الحوار نتيجة لمجموعة من العوامل هي: * عندما يكون الصمت من ذهب وإبداء الرأي من فضة: جرت العادة أن نسمع المثل الذي يقول اذا كان الكلام من فضة فان السكوت من ذهب ولعل ذلك المثل قد ضرب من أجل تنبيه بعض الأفراد إلي أن الكلام إذا لم يكن علي مستوي من اللياقة ويعبر عن فهم ووعي فإن الأفضل للمتكلم أن يسكت فالسكوت أو الصمت أفضل.. ولكننا نقلب هذا المثل لنجعل( الصمت) أو السكوت أقل درجة من إبداء الرأي والإعلان عن وجهة النظر فالكلام بالنسبة للانسان هو همزة الوصل بينه وبين الآخر, والانسان سواء كان محبا للحديث أم زاهدا فيه فانه لابد من أن يجد لديه دائما شيئا يريد قوله.. وعلي الانسان ان يتجنب الزمبليطة الفكرية التي تخرج من خلال الصياح والجعجعة علي الأخلاق والقيم وعلي الانسان وهو يتكلم ان يحترم آراء الآخرين فلا يخدش أحدا ولا يجرح بحوافر الألفاظ الغليظة والبذيئة إحساسات الآخرين. * عندما يكون الكلام أكثر من الأفعال: كثيرا ما نجد هناك من الأفراد المغرمين بكثرة الكلام والوعود والثرثرة والافاضة في الحديث, بحيث يضيعون معظم أوقاتهم في لغو الكلام والزمبليطة الفكرية التي تجعلهم ينهشون الآخرين ويأكلون لحوم اخوانهم بعيدا عن معاني الخير, وهكذا تدفع الزمبليطة الفكرية أصحابها إلي الاساءة والبغض والكراهية وتطمس كل معاني الخير التي فطر الله سبحانه وتعالي عباده عليها. * عندما نعرف الحقيقة ونسكت عن ذكرها خوفا وخنوعا: وتطمس الزمبليطة الفكرية كل ما من شأنه أن يعلن عن الحقيقة لأن أصحابها لا يعرفون الحقيقة بل يكابرون ويعتمدون علي الصياح الذي يجعل بعض الأفراد من ضغط هذا الصياح يسكتون عن ذكر الحقائق وهذا السلوك الذي يعتمد علي السكوت صورة مشوهة تعبر عن الخيانة والمراوغة والتهرب بحجة انه لا جدوي من الحديث أو ابداء الرأي, وهذا السلوك السلبي الذي يمنع من شهادة الحق الناطقة يطغي علي الارادة ويلغي الفكر الواعي.. ويجعلنا نستسلم للزمبليطة والغوغائية * عندما لا يربط الانسان من لسانه: تتجلي المسئولية الحقيقية لدي الانسان في كل ما يقوله وما يخرج عن لسانه والانسان الشريف هو ذلك الذي يأخذ علي عاتقه حتي إذا كان يعيش في اطار ملؤه الزيف والتضليل والخداع ان ينطق دائما بلسان الحق وأن يكون صادقا ومحبا لكلامه بموضوعية وان يكون هذا الحب ملتزما محترما لكل ما يقول ويتفوه به لسانه لا خير في الانسان الذي تأخذه الزمبليطة الفكرية دون أن يربط من لسانه أي يكون امينا عندما يكون متكلما وان يكون مخلصا في وعوده فلا خير في انسان الا يربط من لسانه, كما لا خير في حصان ينزل في مضمار السباق دون أن يعرف كيف يمكن ان يوجهه اللجام, وعندما قالوا في الأمثال لسانك حصانك إن صنته صانك وان هنته هانك كان هذا التعبير بمثابة التنبيه إلي ضرورة الالتزام وتحمل المسئولية وجدير بالذكر: ان القول اذا لم يكن مواكبا لأفعال خيرة تتماشي معه وتؤيده فانه بمثابة فقاعة في هواء مترب تبعث علي الاختناق.. فالكلام قوة هائلة تستطيع إذا ما كان الكلام دقيقا ومعبرا عن أخلاق رفيعة أن تعلن عن الحق وتنشر الخير وتجعل الانسان سعيدا عندما يقول واكثر سعادة عندما يتابع ثمرة أقواله الجادة من خلال نتائج افعاله الخيرة والحق يقال: ان لغة الحوار تحتاج إلي الدقة في اختيار الألفاظ والموضوعية في صياغة الأفكار بعيدا عن الاغراق في الذاتية والعدوانية وذلك الذي يعتمد علي طرح افكاره بين جوانب الزمبليطة والصياح والجعجعة اللفظية هو الذي حكم علي نفسه بالموت قبل الآوان وهو الذي يعد لجنازته جوقة من البلطجية اصحاب الصيحات التي تدعو إلي اليأس والوهن والاستسلام وهي التي تعلن في جنازته عن خيبة الأمل وقلة الحيلة!! لانها جعجعة بلا طحين فاذا كان الحوار علامة من علامات الوصال الوجداني والفكري فعلينا ان نقول لبعضنا البعض هيا نتفاهم قبل أن نتحاور فالتفاهم من الأمور الضرورية لأنه يعتمد علي الحب والوجدان الصافي وصدق النوايا. رابط دائم :