بعد عودتنا من الخارج بشهرين فاجأني ولدي الأكبر بقوله: والدي: ماكنت أتصور أن بلدي مصر بهذا السوء!, كان عائدا لتوه من المدرسة فقدرت أن يكون قد أصابه مكروه أو رأي مايسوؤه بشكل عابر فبادرني بتلك العبارة الصادمة, لكن اتضح لي فيما بعد أن الولد كان قد اختزن ملاحظاته ومشاهداته للشهرين بالكامل منتظرا اللحظة المناسبة للبوح بحالة الغضب والإحباط التي بدأت تسيطر عليه بعد تفاعله المباشر مع الشارع المصري ومع زملاء الدراسة. بمجرد أن سألته ماذا حدث لتقول هذا الكلام؟ انطلق علي الفور بجملة من المشاهدات والملاحظات والتعليقات لم أكن أتوقعها من واحد في مثل سنه, لكنها تنم عن وعيه ووعي جيله بالحالة المصرية وماطرأ عليها بعد الثورة بشكل خاص, قال: ياوالدي كانت صدمتي الأولي عندما شاهدت طلابا يعتدون علي مدرس داخل المدرسة, وكان حال مدير المدرسة: لا أري لا أسمع لاأتكلم, إذ أغلق عليه بابه وكأن الأمر لايعنيه! أما الصدمة الثانية فباغتتني عندما شتم مدرس طالبا داخل الفصل بألفاظ خارجة أستحي أن أذكرها, وكان رد فعل الطلاب هو الضحك ببلاهة وكأن شيئا لم يكن, لقد سقط المدرس في نظري سقوطا مدويا وفهمت حينها لماذا زالت الحواجز بين المدرسين والطلاب ولماذا انتهي الدور التربوي للمدرس وأصبح مسخة يتندر عليه الأولاد ويهينه الأشقياء منهم. صدمتي الثالثة تلقيتها عندما ذهبت لأشتري شيئا من أحد المحال التجارية فوجدته لايرقي للمواصفات المطلوبة ووجدت سعره مبالغا فيه فوق ما اعتدته في الخارج, ووجدت البائع يلح علي في الشراء بأي شكل رغم عدم اقتناعي, أيضا وجدت سلعة واحدة في غير مكان تباع بأسعار مختلفة وبتفاوت كبير, فقلت في نفسي: لماذا يحدث هذا في مصر دون غيرها من البلدان, ولماذا يسود منطق الغش والفهلوة معظم المعاملات؟! وكانت صدمتي الرابعة حين ركبت مواصلة فوجدت السائق يتحرك بعشوائية مرعبة وكأنه يحمل بضائع, وهالني ارتفاع صوت المكبرات داخل الحافلة الصغيرة وتدني ذوق ماأسمعه والكل سكوت رغم تأففهم! أما أجرة الركوب فكانت أعلي مما أخبرتني به ياوالدي فسألت من حولي لأتأكد فقيل لي إن السائق يفرض مايريد كما يريد دون أن يجرؤ أحد علي الاعتراض فأيقنت أن الحد الأدني من السلطة, حتي لو كانت مجرد قيادة سيارة أجرة, يجعل صاحبه في مصر بالذات فوق القانون, والمؤسف أن حالة الاستسلام المخزي, بل وإقرار المخطئ علي خطئه, تكون هي القاسم المشترك الأعظم بين من يتلقون الضربات ويجتريء علي حقوقهم. ساءني يا والدي جدا مارأيت من قاذورات ومخلفات في الشوارع الرئيسية والفرعية, وماأسمعه من ألفاظ خارجة وما أقاومه من غبار وأدخنة تخنق أنفاسي في كل مكان. ياوالدي: أنا أري وأسمع أن المصري يكاد يكون هو الأوحد بين أناس الأرض الذي يهان داخل بلده وخارجها ولك أن تلحظ أن مفاوضات الحكومة مع قيادات العراق وليبيا الأسبوع الماضي كانت حول حقوق المصريين هناك, و حقوق المصريين عبارة لاتغيب عن أي مفاوضات بيننا وبين أي دولة, كما هو حال الشارع المصري الآن الذي لاتجد نقطة ملتهبة به إلا تتوسطها لافتة الحقوق, فماذا بقي للمصري ليتحدث عنه أو به؟! هذه صورة مصر التي أراها الآن وماكنت أتوقع أنها بهذا السوء, لأني ما رأيت بالخارج شيئا مما أراه في مصر, فهل هذه مصر التي كنت تحدثنا عنها بكل فخر واعتزاز ياوالدي؟ وهل هذه مصر التي كنت تعد الأيام والليالي للعودة إليها؟ وهل هذه هي مصر الثورة التي كانت حلما يراودك؟! قلت له: يابني, كل ماقلته صحيح, لكن هذه ليست مصر, فما تراه أنت الآن مجرد أعراض لتشوهات نفسية واجتماعية وسلوكية أصابت الإنسان المصري الذي لم يكن كذلك قبل ستة عقود مضت, فطرأت عليه قيادات أذلته وسحقت كرامته, وقهرته تحت ستار الحفاظ علي الأمن وحماية مصالح الجماهير وأفسحت المجال واسعا للفساد المالي والإداري, وقدمت أهل الثقة وأنصاف الموهوبين, وغيبت القانون, وترعرعت في وجودها المحسوبية والشللية والوساطة, والنتيجة الحتمية لكل ذلك ياولدي هو ماتراه الآن, لكن الإنسان المصري في أصله طيب ومتحضر ومبدع وشهم وصاحب موقف, وإذا تهيأت الفرصة لجلو هذا الغبش عنه وإظهار معدنه الحقيقي فسوف تكون بلادنا هي الأرقي والأفضل بأذن الله. وهذا ماننتظره ونأمل أن يكون. رابط دائم :