اصطبغ زماننا بصبغة المادة، وترك بصمته هذه علي أخلاق الكثيرين وسلوكهم وتفكيرهم، فهم لا يصدرون إلا عن وازع مادي اتخذ ماديات الحياة منهجا وسلوكا، ولهذا فقد نسي أو تناسي هؤلاء في غمرة الحياة، المبادئ القويمة التي يدعو إليها الإسلام، من صلة الرحم وحسن المعاملة وكف الأذى عن الغير ونحو ذلك فتراهم وقد قطعوا أرحامهم، وتنكروا لكل قريب لهم بغير جريرة تقتضيه، وألحقوا بهم من الأذى ما لا يبرره مبرر مشروع أو غير مشروع، في الوقت الذي يصر البعض فيه علي ألا يعاملهم بنفس النهج الذي اختطوه لأنفسهم في الحياة، فيصلهم رغم مقاطعتهم له، ويجتهد في الإحسان إليهم رغم مقامهم علي الإساءة له، ويحنو عليهم ويرحمهم رغم قسوتهم عليه، ويظهر لهم من الحب والود ما يعتمل في نفسه رغم بغضهم وكرههم له، وانتهاجه هذا النهج حيالهم لم يكن ممالأة لهم حتى ينال منهم ما هو في حاجة اليه، وإنما تحليا بخلق كريم دعا إليه الإسلام، والواقع المعاش يبين عن كثير من نماذج هؤلاء وهؤلاء، ومبادئ الإسلام العامة تقتضي عدم مقابلة السيئة بمثلها، وإنما بمقابلة السيئة بالحسنة، قال الله تعالي: "ادفع بالتي هي أحسن السيئة"، وقال سبحانه: "ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم"، حيث بين الله تعالي في هذه الآية فائدة مقابلة السيئة بالحسنة، من تغيير نهج صاحب السلوك السيئ وتحويله إلي سلوك قويم تجاه من أساء اليه، وإذا كان سلوك هؤلاء الأقارب مع قريبهم أو أقربائهم ضارا علي هذا النحو، فإن رسول الله صلي الله عليه وسلم نهي عن مقابلة الضرر بمثله، فقد روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام"، والنفي في الحديث عن الضرر والإضرار بمعني النهي عنهما، والضرار: هو مقابلة الضرر بمثله، ومن ثم فلا يحل وفقا لما ورد في الحديث لأحد أن يضر غيره، ولا لاثنين أن يضر أحدهما بالآخر علي سبيل المقابلة، بحيث يقابل الضرر بمثله، وهذا يؤكد المبدأ الإسلامي القويم الذي أشارت اليه الآيتان السابقتان، وقد نهي رسول الله صلي الله عليه وسلم عن مقابلة الإساءة بمثلها، وحض علي صلة الرحم وإن كان الاقارب من جهتهم يصرون علي قطعها، إذا روي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: "لقيت رسول الله صلي الله عليه وسلم، فبدرته فأخذت بيده وبدرني فأخذ بيدي، فقال: يا عقبة ألا أخبرك بأفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة، تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك، ألا ومن أراد أن يمد في عمره ويبسط في رزقه فليصل ذا رحمه، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: "ثلاث من كن فيه حاسبه الله حسابا يسيرا وأدخله الجنة برحمته، قال: وما هي يا رسول الله بأبي أنت وأمي؟ قال تعطي من حرمك وتصل من قطعك وتعفو عمن ظلمك، فإذا فعلت ذلك يدخلك الله الجنة، وروي عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها"، ومعني هذا أن من يصل ذوي رحمه ليس هو الذي يصلهم لأنهم وصلوه، وإنما الذي يصلهم وإن قطعوا صلتهم به، وانطلاقا من ذلك حض رسول الله صلي الله عليه وسلم علي الصدقة علي ذوي الرحم، وإن كانوا يضمرون العداوة لمن يتصدق اليهم، وجعل الصدقة عليهم من أفضل أنواع الصدقة، فقد روي عن أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "أفضل الصدقة الصدقة علي ذي الرحم الكاشح" ومعني الكاشح: الذي يضمر عداوته في كشحه وهو خصره، تعبيرا عما يعتمل في نفس هذا المضمر العداوة لقريبه، يعني أن أفضل الصدقة ما كان علي ذي الرحم المضمر للعداوة في باطنه، حيث تضمنت الفضل من عدة وجوه، منها: أنها صدقة، وأنها بذلت إلي ذي رحم من المتصدق، وأنها بدفعها اليه وهو مبغض ومعاد لمن تصدق بها، ربما نزعت من صدره ذلك، فانقلب بها وليا حميما له وجاء رجل إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم يشكو اليه سوء معاملة أقاربه له، فيما رواه أبوهريرة رضي الله عنه قال: "إن رجلا قال: يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني، وأحسن اليهم ويسيئون إلي، وأحلم عليهم ويجهلون علي، فقال: إن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل، ولايزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت علي ذلك "المل بفتح الميم وتشديد اللام هو الرماد الحار، ولا يطيق أحد وضع التراب الحار في فيه ولا يرضي بذلك، وهذا تنفير من حال المقيمين علي الإساءة لذوي رحمهم رغم إحسانهم اليهم، ودعوة إلي نبذ هذا السلوك غير السوي، الذي لا يتفق مع مبادئ الإسلام السامية وأخلاق المسلمين القويمة.