عندما هبطت الطائرة التي اقلتنا من مطار فيينا الدولي الي العاصمةالأرمينية يريفانا كانت الوقت يقترب من الفجر تقريبا, وكان الطريق من المطار حتي الفندق الذي في وسط العاصمة تقريبا مظلما نوعا ما. حتي استدعيت من ذاكرتي رحلتي الي الخرطوم عام2003 التي وصلتها ليلا ولم نر وقتذاك عمود إنارة واحد في الطريق وربما في المطار أيضا. سبب استدعاء الذاكرة هو قلقي من تكرار نفس المواقف التي واجهتها في الخرطوم في يريفانا التي تخيلتها مثل المدن الأوروبية التي لا تنام ليلا مثل باريس. الي ان شاهدنا علي جنبات طريق المطار كازينوهات كثيرة رفعت الأمل في نفسي التي حدثتها خلسة بان الزيارة لن تذهب سدي. وما ان وصلنا الي الفندق برفقة المستشار طارق المليجي قنصل مصر في يريفانا, والدكتور أرمين مظلوميان المستشار الاعلامي والثقافي للسفارة الأرمينية بالقاهرة, حتي انهينا إجراءات الاقامة بسرعة ليصعد كل فرد في الوفد الإعلامي الي غرفته ليرتمي فوق سريره ويسرق سويعات قليلة لينام ولينهل بعض الراحة قبل ان يبدأ اليوم الاول من الرحلة التي استمرت اسبوعا ومرت كأنها دقائق. مدينة ساحرة لقد خاب ظني والحمد لله عندما اشرقت شمس يريفانا لاكتشف انها مدينة ساحرة لا ينقصها عن بقية مدن اوروبا سوي ان يتضاعف الدخل القومي وتزداد حركة السياحة فيها وتهدأ مشاكلها الاقليمية مع الجيران وتحديدا أذربيجان وتركيا, لتكون ارمينيا دولة متقدمة سياحيا واقتصاديا وتقنيا, وإن كانت قد حققت تقدما في مجال تكنولوجيا المعلومات جعلتها من ضمن رواد تلك الصناعة في فترة وجيزة للغاية, بفضل المشروع العملاق المعروف باسم سنوبسيس ويصل رأسماله الي نحو مليار ونصف المليار دولار, ووضع ارمينيا في مصاف الدول المتقدمة في هذا المجال خاصة اذا علمنا ان شركة سنوبسيس انشئت في فترة وجيزة وتستقطب بفضل سمعتها خبراء تكنولوجيا المعلومات من كل أنحاء العالم, وهي تمنح جوائز علمية ومنح للمتفوقين في هذا التخصص. لقد بدت يريفانا متأنقة صباحا وظهرا وعصرا ومساء وليلا, فهي مدينة تحب السهر, ويتأنق ساكنوها خاصة من الشباب, وتتباهي بناتها بارتداء احدث الموديلات, حتي انني سألت كثيرين من المصريين الأرمن المقيمين في يريفانا عن سر تأنق المرأة هناك رغم ان متوسط الدخل الشهري هناك يقترب بالكاد من الثلاثمائة دولار شهريا, وهو مبلغ لا يكفي للانفاق علي الملبس والمأكل والترفيه في بلد تضم عاصمته كل الماركات العالمية والمطاعم الفاخرة وبالعاصمة بعض الشوارع والميادين لم نرها إلا في روما وباريس مثل منطقة النورث افينيو ومنطقتي الأوبرا والجمهورية, التي تجذب السياح والاجانب خاصة ممن يأتون من بلاد حارة مثلنا. الاجابة عن تساؤلاتي تلخصت في الجاليات الأرمنية في الخارج تسهم بقدر كبير في الدخل القومي عن طريق التحويلات النقدية عن طريق ارسال مبالغ شهرية وسنوية للاسر المقيمة بالبلاد. بدأنا يومنا الاول بزيارة السفارة المصرية, ولم نكن غرباء عن السفارة حيث سبق وتعرفنا علي المستشار طارق المليجي هذا الانسان دمث الخلق. أصل قضية الإبادة يشبه الأرمن قضية الإبادة بشخص قتل آخر ثم استولي علي ممتلكاته ليعيش علي عوائد جريمته الي ان تكتشف جريمته وتقضي المحكمة بسجنه او اعدامه حسبما يتراءي لها علي ان يجبر علي اعادة الممتلكات وحيازات المقتول التي اغتصبها بدون وجه حق. ولكن وجه الاختلاف هنا بين الشخص المقتول والقاتل ان القصة الحقيقية هي بين شعب وارض في كفة وحاكم عثماني في كفة اخري. فثمة قرار من الحاكم بقتل شعب آخر والاستيلاء علي ممتلكاته وتشريد أبناء هذا الشعب بين الامم, ليعيش القاتل والمغتصب علي أرض المقتول والضحية المطرود والذي رحل بعضه قسرا خوفا علي حياته وعرضه وماله ولكنه اضطر طبعا الي ترك أرضه. ثم الاهم ان القاتل هنا لم يقدم للمحاكمة حتي الآن, فهو لا يريد الاعتراف بجريمته وابادته لشعب الأرمن عام1915 والتي راح ضحيتها نحو مليون ونصف شخص غير الذين نزحوا من اراضيهم ووطنهم الذي عاشوا فيه منذ اربعة آلاف عام, الي ان اكتملت تماما عملية تتريك شرق الاناضول. ولا يزال هناك ثمة فارق بين التشبيه والواقع, لان المحكمة تقضي في الوضع الاول بسجن المغتصب والقاتل مع رد كل ممتلكات الضحية, في حين ان الواقع لم يزل الجاني طليق كما يؤكد الأرمن. تستنزف واقعة الإبادة كل الجهودالأرمينية ثقافيا وسياسيا ودينيا, فاذا تحدثنا مع وزيرة الثقافة هاسميك بوغوصيان نجدها تبث شكوي بلادها من جراء عدم اعتراف تركيا حتي الان بما ارتكبه العثمانيون آنذاك ضد الشعب الأرمن في شرق الاناضول. واذا عرجنا علي وزارة الخارجية لنلتقي نائب وزير الخارجية شافارش كوتشاريان, نجده يستنزف من الوقت اكثره ليشرح أهمية الإبادة في ملفات السياسة الخارجيةالأرمينية, فاذا كانت القضية الفلسطينية قد سيطرت علي كل جهود جامعة الدولة العربية والسياسات الخارجية للدول العربية مجتمعة, فهذا هو الحال تقريبا لقضية الإبادة في العقل الجمعي الارميني. ولا يفوت الدبلوماسي الارميني فرصة إلا وتحدث عن قضيتين هما الإبادة وناكورونوكاراباخ. ربما لا نبالغ اذا قلنا ان قضيتي ابادة الأرمن و كاراباخ تسيطران تماما علي العقل الأرميني. ومن الخطوط الرئيسية للسياسة الخارجية الأرمينية التعريف بواقعة الإبادة من اجل الحصول علي اعتراف تركيا بالإبادة الجماعية للارمن, واذا كان الشتات قاموا بهذا الأنشطة قبل استقلال ارمينيا, فهذا الموضوع اساسي في أجندة ارمينيا الخارجية. لقد دفعنا هذا القول من قبل نائب وزير خارجية ارمينيا الي سؤاله: هل هناك ضمانات ارمينية لتركيا بعد المطالبة بتعويضات مالية في حالة الاعتراف؟.. والاجابة تأتي بالنفي يجب الا نستبق الوقت وننتظر.. لا نستطيع تقديم ضمانات لأن الهدف الأساسي هو الاعتراف والمصالحة مع التاريخ, ارمينيا المستقلة لم تضع طلبات خاصة بالأراضي وليس لديها النية المطالبة بأراضي, وإذا كانت تركيا تتخوف من المطالبات باراضي, فإن التوقيع علي البروتوكلين كانا ينصان علي اقامة علاقات دبلوماسية حسب الحدود التي كانت موجودة ايام الاتحاد السوفيتي. وقد بدا ان الدبلوماسي الأرميني قد فهم أن السؤال يتعلق بالاراضي وليس الممتلكات والأموال, ولذا وجب التشديد علي المطالبات المالية, وهنا ايضا لم يحدد شافارش كوتشاريان إجابة واضحة وإن كانت عائمة لا نسبق الوقت وننتظر ولدينا مثال ألمانيا الواضح لتركيا.. وكان يقصد بذلك التعويضات الألمانية لإسرائيل. النزاع مع اذربيجان تبقي ازمة ناجورنوكاراباخ موضوع خلاف حادا بين أرمينيا واذربيجان, فالنزاع قائم في منطقة ذات تأثير جيوستراتيجي, وتقع في حدود المناطق الساخنة في رابطة الدول المستقلة التي هي تركة الاتحاد السوفيتي وثمرة السياسة الدولية التي عمدت الي تقسيم الدول عشوائيا من دون اعتبار لهوية الأمم وروحها القومية وحدودها وذاكرتها التاريخية. ونشب النزاع علي كارباخ البالغ مساحتها404 آلاف كيلومتر مربع ويشكل الأرمن فيها الأكثرية بجانب الاذربيجانيين والروس, في عام1988 واصبح الاقليم تحت سيطرة القوات الأرمينية ولايزال الصراع محتدما بين الدولتين وتنعكس اثاره علي كل منطقة القوقاز. وتتخوف ارمينيا تتخوف من مسلك اذربيجان التي تحاول حسب قول نائب وزير الخارجية ان تحول القضية من سياسية الي دينية مستغلة في ذكل منظمة التعاون الاسلامي, ولتسخر العالم الاسلامي عبر تلك المنظمة من اجل الحصول علي بيان وقرارات معادية للارمن. التسامح الديني وإذا كان الموقف الدبلوماسي غير متسامح ولا يقبل الحلول الوسط, فان قداسة بطريرك عموم الأرمن كاريكين الثاني والذي تسيطر عليه ايضا قضيتي كاراباخ والإبادة, يبدو اكثر تسامحا في حديثه وإن كان يشارك بقلبه اوجاع الأرمن ويشير الي ان المشكلة هي الحدود المغلقة وابقاء ارمينيا تحت الحصار لان حدودها مغلقة مع تركيا اذربيجان مما يحجبها عن المنافذ البحرية. ولكن ثمة تناقض بين تأكيد نائب وزير الخارجية الأرميني كوتشاريان الذي يري أن اذربيجان تسعي الي تديين النزاع بين البلدين وصبغه صبغة دينية اي بين مسيحيين ومسلمين.. وبين بطريرك عموم الأرمن كاريكين الثاني الذي يميل الي الي القول بان النزاع ليس له أي أساس ديني. بيد ان هذا الموقف البابوي لا يمنع البطريرك من ابداء مشاعر الأسي والحزن خاصة عندما يتحدث عن القضية: اللقاءات الدينية تسهم في تخفيف التوتر, ثمة جهود بذلها البطريرك الروسي لعقد لقاءات بين القيادات الدينية في ارمينيا واذربيجان, ونجحنا في تحقيق بعض الانجازات بعد تلك اللقاءات مثل تبادل الأسري بين ارمينيا واذربيجان, وأسهمت جهودنا لارساء وقف اطلاق النار, وقمنا بخطوة أولي حيث تتم اللقاء ات في ارمينيا نفسها وليس في مكان آخر, فمثل تلك اللقاءات تساهم في تخفيف روح العداء بين الشعوب وتجعلنا نتخلص من الروح العدائية, وأسهمت جهودنا في ابعاد القناصين عن منطقة الحدود وتعزيز وقف اطلاق النار.. نبرة التسامح الذي تحدث بها البطريرك لا تخلو من لحظة أسي اخري ليعترف: السلام رخو حتي الان, ونتمني ان يستقر السلام والامن معا. وبسؤال البطريرك هل تتوقعون ان يمتد الصراع ليكون دينيا وليس سياسيا؟ يرد علي الفور عبر المترجمة ناريني التي تعلمت العربية في سوريا وتتحدثها بلغة فصحي اقرب الي اللكنة الشامية: هذا مستحيل مطلقا, لدينا امل في الا يوجد تطوير الصراع وسوف نجد الحل ونضع النقاط علي الحروف. ويشير البطريرك الي نقطة غاية في الاهمية وهو لاحظها بنفسه خلال زياراته المتعددة للخارج وهي ان المواطنين الاذريين والأرمن لا ينظرون الي بعض بعدائية في الدول الأجنبية الاخري ويعيشون معا بسلام واخاء.. وهذا ما يدفع البطريرك للامل: نحن نتوقع ان يجد الصراع طريقه للحل السلمي عن طريق المفاوضات, فنحن لا نحتمل أية تطورات سلبية في المستقبل. وعودة الي قضية الإبادة التي تؤرق الأرمن شعبا وقيادة سياسية ودينية, فقد تطرقنا اليها مع قداسة بطريرك عموم الأرمن كاريكين الثاني, يؤكد ان بلاده تسعي عبر جهود دءوبة للحصول علي اعتراف تركي بتلك المجزرة حتي يتخلص الشعب التركي من هذا العبء الثقيل, وهذا سيأتي بالتعاون مع رجال السلطة الدينية والسياسية في تركيا. ولكن تبقي ملاحظة هامشية وهي ان الحالة العدائية بين البلدين لم تمنع الأرمن من فتح أسواقهم لغزو المنتجات التركية لها, فمن الواضح ان الاقتصاد أو عالم البيزنس لا قلب او وطن محدد له, فالمال يخترق جميع الآفاق والحدود حتي المغلق منها.