رب ضارة نافعة, فأزمة العباسية الأخيرة التي تطاول فيها البعض علي القوات المسلحة متصورين قدرتهم الزحف علي وزراة الدفاع كشفت ما يجول في نفوس البعض تجاه الدولة المصرية بمخزونها الحضاري والسلوكي والمؤسسي والقيمي, وفضح رغبتهم الجارفة في هدمها وإهالة التراب علي كل ما فيها. تدفعهم في ذلك فكرة بائسة بأن مصر الثورة لابد أن تكون منقطعة الصلة تماما عن تراثها وتاريخها ومؤسساتها, وأن البناء الجديد لابد أن يبدأ من العدم, وأن يكونوا هم وحسب فوق قمة ركام الحقد والغل. وبالرغم من سذاجة التصور وعدم تماسكه فكريا وعمليا, فإنه لا يخلو من خطورة عظيمة, تتمثل في غياب قيمة الانتماء لقطاعات أغلبها وللأسف الشديد من الشباب, الذي تجرفه العبارات الرنانة والشعارات الخبيثة والمشاعر الجياشة نحو سلوكيات وأفعال تؤذي فاعلها بالدرجة الأولي كما تؤذي الوطن ككل. فحين تتشدق مجموعات من الشباب بالزحف نحو واحدة من أهم الوزارات في أي بلد, معتبرين أنهم بصدد استكمال مهمة هدم الجيش بعد أن نجحوا- حسب تصورهم الساذج- في كسر الداخلية من قبل, فنحن أمام أزمة تنشئة وطنية بامتياز, وأمام حالة انفصال تام لجيل صاعد عن معني الدولة وقيمتها في حياة الناس وضرورتها القصوي لحماية ووجودهم ومصالحهم, وأيضا أمام لحظة خطيرة ومحزنة في الآن ذاته, إذ نكتشف أن بعض من نعول عليهم لبناء الوطن ونهضته لا يؤمنون به أصلا, ولا يعترفون بقيمة مؤسساته, وكل همهم هو التشكيك والهدم والضرب بعرض الحائط تماسكه الداخلي والفصل بين فئاته وطبقاته, وإهانة رموزه العسكرية والقضائية والفكرية, والتلذذ بالعبارات البذيئة والشعارات الكاذبة المنفرة, وتنظيم حملات تنشر الحقد والكراهية بين الشعب والجيش, وهو ما لا يحدث في أي بلد في العالم, ولم نسمع به من قبل. وكأن أبناء المصريين في جيشهم العظيم قد أتوا من كوكب أخر. بالقطع ليست هذه نتيجة للثورة, ولكنها نتاج تراكم سنوات طويلة للنظام السابق, حيث تم الإهمال العمدي لمواد التربية الوطنية وتغييب التعريف الصادق بتاريخ مصر ورموزها الوطنية وقيمة مؤسساتها, والتعتيم علي الدور التاريخي والعظيم الذي لعبه الجيش المصري منذ أن أنشئ في عهد محمد علي وحتي الآن في الحفاظ علي الكيان المصري واسترداد كرامته والزود عنه وردع التهديدات التي لم تتوقف أبدا من كل الجهات تقريبا. ولعل المتفائلين بالثورة كانوا يعولون علي أن الثورة ذاتها وبالطريقة التي تمت بها كانت كفيلة بأن تفجر المخزون الحضاري والوطني لدي كل فرد, وتعظم قيمة الانتماء للوطن الكبير مصر, خاصة لدي الأجيال الصاعدة. بيد أن حدث هو العكس تماما, وهذا هو المحزن والمثير. لاسيما وأن هناك جوقة من المثقفين والسياسيين والإعلاميين تغذي بدأب شديد مثل هذه المشاعر الكارهة لمصر وللمصريين معا لدي قطاع الشباب. إذ رأينا الانتماءات الأولية لفكرة أيديولوجية أو جماعة دينية أو لشخصية لديها قدر من التأثير والسحر علي من حولها, تطرح باعتبارها الأولوية الأهم علي حساب المصلحة العامة وعلي حساب الوطن ذاته. إنه ناقوس الخطر إذا. ناقوس يقرع بكل قوة لينذر كل مصري أيا كان فكره أو انتمائه الطبقي والاجتماعي بأن استمرار الامر علي هذا النحو يعني ضرب الوطن والصدام مع الدولة واسقاط المؤسسات, أو بمعني آخر العودة إلي حالة الغابة والصراع الوحشي وسيادة العصابات وضياع الحقوق. لقد رأينا في العباسية من يرفع شعارات الجهاد والرايات السوداء, ومن يطلق الأحكام القاطعة علي كفر المجتمع ككل وكفر القائمين عليه, ومن يحفز شباب مخدوع بالكذب الصارخ علي هدم الدولة وبناء مجتمع الايمان حسب تصورهم المريض وتحت قيادتهم الوحيدة. ورأينا جماعات تؤمن بأفكار القاعدة وتعتبر اللحظة سانحة لرفع السلاح وإهدار الدماء وتحويل المساجد إلي بؤر للعنف وإطلاق النيران علي المخالفين والرافضين لهذا المنهج الفوضوي, ورأينا الملثمين حاملي الشوم والأسلحة البيضاء والذين يتفننون في تعذيب مواطنين أبرياء قادتهم الاقدار وحب الاستطلاع البرئ إلي الميدان لحظة أن سادت الفوضي والهمجية. والمحزن أيضا أن يستخدم الدين ببساطة متناهية في تكفير المخالفين في الرأي وصب اللعنات عليهم. والمحزن أن التكفير لم يعد يأتي من دعاة قليلي الخبرة بأصول الدين والفقة والشريعة, وانما أيضا من علماء كبار يفترض أنهم الأقدر علي الفصل بين الدعوة لله ولدينه السمح, وبين توظيفه في صراع دنيوي علي السلطة. وكم هو محزن أن يصف عالم بحجم الشيخ يوسف القرضاوي في حواره الأخير المعارضين لفكر جماعة الاخوان المسلمين كأل لوط الذين رفضوا التطهر والإيمان وانغمسوا في الملذات والشهوات فاستحقوا العذاب الشديد في الدنيا والاخرة. و لا نملك سوي الدعاء لله أن يهدي شيوخنا وأن يتقوا الله فينا, فلا الاخوان المسلمين هم المؤمنين وحسب, ولا باقي المصريين من غير الاخوان هم أهل الفسق والملذات والشهوات. فتلك قسمة لا يرضاها أي عاقل, ويكفينا أن نحتسب أجرنا عند الله تعالي. عناصر الصورة علي هذا النحو تستوجب ليس فقط الرفض والإدانة اللفظية رغم أهميتهما, بل أيضا استخدام كل الأدوات والسبل القانونية لمحاسبة هؤلاء والمحرضين لهم, وتستوجب أيضا استنفار كل الطاقات المخلصة لكشف أبعاد هدم الدولة في مصر باسم الثورة أو الجهاد أو مواجهة الفلول أو أي شئ آخر. ولا سبيل سوي فضح المتورطين والكاذبين والفوضويين والكارهين لمصر وشعبها العظيم. إننا بحاجة إلي استنهاض روح الانتماء لبلد عظيم يواجه محنة التغيير, التي يريد البعض لها أن تكون هدما وليس بناء, أن تكون صراعا دمويا وليس منافسة شريفة تحكمها القيم والأعراف والقوانين.