فرض الآخرون علي الفتي حالة طمست معرفته وثقته بجدارته داخل النسيج الاجتماعي, وحرمته إمكانية الحكم باستحقاق نسب وجوده, إذ مست هويته ومحيطه العائلي, حيث دمرت شائعات الآخرين عنه, وعن أسرته, كل يقين لديه, فأصبحت ذاته رهينة أحكامهم التي تحصنت بالتكرار وإن كانت هذه الأحكام لا تمتلك سلامة صحتها حتي غدا الفتي غير قادر علي أن يصحح معرفته عن ذاته, لانعدام ثقته بما يعرفه, نتيجة تصورات الآخرين التي فصلته عن شرعية وجوده, وأقصت تواصله مع ذاته, فانتهكت ثقته بنفسه, ودفعته بعيدا عن حقيقة نسبه, فخلخلت شبكة علاقته بمن حوله. لم يكن أمام الفتي من الحقائق سوي أن أمه معصوبة العينين, وأن جدته عمياء نتيجة مرض بصري, وجده مصاب بفتق في فخذه. أما خطاب الآخرين الاتهامي فيؤكد أنه ليس ابنا شرعيا لأبيه, حيث أنجبته أمه من رجل آخر, وأن لأبيه طفلا من امرأة أخري, مع أن الفتي لم يكن يعرف هذه المرأة الأخري, ولا الطفل الآخر. لم يستطع الفتي أن يمسك بالحقيقة التي تفصح عن حضورها, إذ تغزو واقعه مساحات من الدعاوي المضمرة الهدف التي تخرج من مستودع الإثارة فتتلاعب به بتأثيراتها, فلا يبرأ من حيرته في مواجهة الدعاوي المتناقضة غير المحسومة التي تنتهك وجوده, وتدمر أي تصور لمشروعات مستقبله, مهما يكن قربها, فتحرمه إحساسه بجدارته. إن الأخبار الرائجة أن أباه يهدي الطفل الآخر هدايا عيد الميلاد, ويخبر أمه أن ذلك الطفل الآخر ليس ابنا شرعيا له, وإنما هو ابن لرجل آخر, في حين يحضر ساعي البريد إلي الشاب دوما في رأس السنة مظروفا به مبلغ من المال, ويخبره أنه هدية من ابابا نويلب, ومع ذلك فإن أمه تقول إنه ليس ابنا لرجل آخر. تري كيف يصبح الفتي مملوءا بالحياة في مواجهة تلك الدعاوي المعلبة والمروجة التي تفاجئه بمنعطفاتها المأهولة بالمجهول المبهم الذي يهدم ثقته بنفسه وبالآخرين من حوله؟ ولأن الإنسان يعيش علي حافة الحياة, ويصبح مضطربا, غير واثق بنفسه, عندما يقع أسيرا لمتناقضات لا تمكنه من الانخراط في العيش بسلام مع نفسه ومجتمعه, لذا فإن الفتي قد يفقد توازنه, ووعيه الذاتي, نتيجة دعاوي الآخرين التي هيمنت عليه, وأحالت واقعه إلي شبكة من الفجوات والانقطاعات, تحرمه مشاعر التواصل, وتصيبه بشلل ممض يقوده إلي الاغتراب, واللامبالاة, وذلك ما يعني توقف مشاركته الفاعلة في العيش المشترك. لقد انهال الآخرون في موجة تالية بمناجل الحرث في أمور تطول شرعية مدونة معلومات الفتي عن أسرته, إذ طرح الآخرون تشكيكا داهمه, ذلك أن جدته تزوجت جده, لأنه كان يمتلك حقلا, في حين أنها كانت تحب رجلا آخر, وأنه كان من الأفضل لو أنها تزوجت الرجل الآخر, لأنها شديدة القرابة لجده, لدرجة كاد أن يكون زواجهما سفاح قربي صريحا. لا شك أن ثمة مضمرا مخبأ فيما يطرحه الآخرون بدعاواهم المتلاحقة ضد الفتي, يتجلي في إرادة سلطة وهيمنة, تسعي إلي تغيير أوضاع معينة, وبالتأكيد لا تستهدف استنهاض قوي الفتي وهمته, بل ترسخ في وجدانه الخزي حتي يتأبي الاندماج بأسرته, وذلك باسقاطهم علاقته بنسبه من خلال المراهنة علي وصم ذلك النسب بانتهاكه للضوابط, وإخلاله بالدستور الأخلاقي, وقيم الارتقاء الإنساني. انهم علي الحقيقة لا يكفون عن دس اتهاماتهم وتكثيفها ضد أسرة الفتي, بتسريب الريبة إلي إطاره المعرفي الذي يضم شبكات السلوك الاجتماعي والنفسي, بوصفه البوابة الرئيسية للتفريق بينهما, بانتقاله من حالة التجانس إلي حالة الخزي التي تواجهه, عنذئذ يصبح الفتي عاجزا عن الدفع بحياته إلي مستقبله, متخليا عن أسرته ومسئولياته تجاهها, غير عابئ بانتمائه, فارضا انشقاقه, مستسلما للدعاوي الجاهزة والمتداولة. ولكي يستحيل علي الفتي إعادة بناء الثقة مع أسرته, فإنهم يواصلون الدفع باتهامات تولد مآزق تشخص نوعا من التطرف المبرمج في سلسلة من التصرفات التي تتسم بالانحراف, وتستوجب المساءلة, يعجز الفتي عن احتمالها, وهو معيار استراتيجي لإحكام الهيمنة. استمر هؤلاء الآخرون في ممارسة إشاعة الاضطرابات في أسرة الفتي, بترويج اتهامات واعتراضات تنال من شرعية علاقاتها, في سياق حملة لا هوادة فيها, دون دلالات, تستهدف أن تصبح الأسرة موضع خزي للفتي, بحيث لا يمكنه أن يتوحد معها بتخل طوعي, يدحض الترابط الطبيعي المباشر بينهم, إذ روج هؤلاء الآخرون أن أم الفتي ابنة لرجل مختلف عن أبيها, وكذلك خال الفتي ابن لرجل مختلف, ليس هو نفس الرجل المختلف, بل من رجل آخر مغاير, واستمر الآخرون في مواصلة الطعن في شرعية امتداد الأسرة بالتشكيكات والشبهات في علاقات أفرادها العرضية, والمتقاطعة, والمستبدلة, المنزوع عنها غطاء الشرعية مروقا وانحرافا, حيث تداولوا دعاوي أن جد الفتي هو جد طفل آخر, وأنه ليس نفس الطفل المختلف, بل من شخص آخر. وإمعانا في الضغط علي الفتي, تطرقت اتهامات الآخرين إلي انفلات سلوك أفراد الأسرة عن شرطهم الإنساني, فردد الآخرون أقوالا أن اأم جدة الفتيب ماتت شابة من برد مزعوم, ثم أضافوا أن الموت لم يكن بسبب المرض, بل كان قتلا متعمدا, وفورا, بعد موتها تزوج اأبو المجد الفتيب امرأة أخري, كان لديها عندئذ طفل من رجل آخر لم تكن قد تزوجت به في ذلك الحين. وبعد زواجها, أصبح لها طفل آخر من اأبي جد الفتيب, ثم أضاف هؤلاء الآخرون أن هذا الطفل الآخر كان من رجل آخر أيضا, وليس من اأبي جد الفتيب. إن خطاب هؤلاء الآخرين يحور الأحداث جميعها, ويمسخها عبر إزاحتها عن حقيقتها, ويلصق بها دلالات المحظور ليشوهها, فعندما يسردون أن اأبا جد الفتيب كان يذهب كل يوم سبت لسنوات متتالية إلي منتجع صحي في مدينة صغيرة بها ينبوع مياه معدنية, فإنهم يبررون ذلك بأنه كانت له علاقة مع امرأة في تلك المدينة, بل وأنه شوهد ممسكا بيد طفل آخر في أماكن عامة في تلك المدينة, ولم يشاهد قط مع المرأة الأخري, وذلك ما يؤكد أنها كانت مجرد بغي منتجع, مادام لم يصطحبها قط إلي أية أماكن عامة, وتتبدي الغاية الفعلية التي راهن عليها خطاب هؤلاء الآخرين, حين يكشفون في النهاية عن فحوي استراتيجيتهم, بترويجهم إدانة اأبي جد الفتيب علي فعلته تلك, بأنه يستحق أن يحتقر, إذ أن فعلته قد تكون أسوأ من سفاح قربي صريح, إنه خزي تام. تري ماهو السؤال المسكوت عنه في هذه القصة إذن؟ إن الكتابة الألمانية اهيرتا مولرب جائزة2009 في قصتها اأسرتيب, تكشف عن سياسة الهيمنة التي يضطلع بها هؤلاء الآخرون, بوصفهم يجسدون قوة فائقة في مواجهة الفتي, كما تفضح الكاتبة تجليات تلك الهيمنة من خلال تعرية ممارساتهم التسلط, والضغوط الممتدة, والتدخلات السافرة في شأن الحياة الخاصة للفتي, لتغيير واقعه من داخله والسيطرة عليه, وذلك بإبادة عالمه الخاص والحقيقي, وتبديد وشائج علاقته بأسرته وتشويهها, بالانتقاص من جدارتها, وإلصاق الخزي بها, طعنا في شرعية علاقاتها, حتي ينأي الفتي عن أسرته, تكريسا لاغترابه, سعيا إلي هزيمته دون أسلحة, إذ جعل هؤلاء الآخرون من اللغة صوتا للعنف الماكر بديلا عن القوة العارية, من خلال ما يرددونه من دعاوي فاضحة لعلاقات متعارضة, وسرديات متداولة متطرفة متمادية وصادمة, تجسد فوضي مفرطة, في ظلها تنمو جروح الريبة وعدم الثقة لدي الفتي, وهي الصورة المتوهمة والمفخخة التي يصدورنها إليه, حتي يخلخلوا قناعاته وتوقعاته, تقويضا للمنظومة الداخلية له, عنذئد يصبح الفتي معدا للهيمنة. ومن المدهش حقا أن سياسة الهيمنة لدي هؤلاء الآخرين في قصة اهيرتا مولرب, هي السياسة نفسها التي تمارسها الولاياتالمتحدة راهنا, بفرض هيمنتها ووصايتها علي الأنظمة الوطنية في اشتغالها بشأنها الداخلي, وذلك ما تجلي في مطالبتها بخضوع الانتخابات المصرية للمراقبة الدولية, الذي يتبدي تسلطا, وتدخلا وضغطا يستهدف السيطرة السياسية, ويشكل خروقات فاضحة, تخالف ماجاء في إعلان وثيقة الأمن القومي الأمريكي الصادرة في يونيو عام2010, التي تنص علي: االتزام أمريكا بالديمقراطية, وحقوق الإنسان, وحكم القانون, كمصدر ضروري لقوة واشنطن ونفوذها في العالم, وأفضل وسيلة للترويج لهذه القيم علي الصعيد العالمي, وذلك دون الحاجة إلي فرضها, تكمن في الالتزام بممارستها في الداخلب. بالقطع إن فرض المطالب الأمريكية الراهنة لا علاقة لها بما تنص عليه وثيقة الرئيس أوباما المعلنة, التي تنفي مبدأ فرض الوصاية والتدخل لترويج قيم بوسائل مضادة للشرعية, إلا إذا كانت سياسة الولاياتالأمريكية مازالت تنطلق من مشروع اليمين الأمريكي المتطرف, وأن اروبرت كيجانب أحد منظري المحافظين الجدد مازال قابعا في البيت الأبيض, ببيانه التنظيري الذي صاغه في أثناء عمله مع الرئيس السابق بوش الابن, حيث سوغ فيه العودة إلي الامبريالية بفرض الهيمنة الأمريكية علي العالم, وأباح لأمريكا وحدها بوصفها صاحبة القوة الفائقة ممارسة التدخل تحت شعار حماية الأمن العالمي. صحيح أن ما طرحه بعض المحللين السياسيين في قراءاتهم لوثيقة الرئيس أوباما, ووثائق الرئيس بوش الابن, أنه ليست ثمة قطيعة جذرية بين هذه الوثائق, وصحيح أيضا أن البعض الآخر منهم رأي أن الفرق الجوهري, يتمثل في أن وثيقة الرئيس أوباما تعد ردا علي فشل إدارة بوش, والمحافظين الجدد, لكن الصحيح كذلك أن الممارسات السياسية علي مستوي الواقع, عندما تحمل وتحت ظواهرها مايناقض مصداقيتها مع الوثيقة المعلنة, تصبح هذه الممارسات هي المرجعية, وتمثل ارتباكات عند المضاهاة بين تلك الممارسات والخطاب السياسي المعلن. تري هل لم تغادر بعد السياسة الأمريكية أهدافها السابقة في الهيمنة والتسلط رغم تجاربها؟. نعاود الرجوع إلي قصتنا لاستجلاء السؤال المسكوت عنه, والمدرك من أحداثها, الذي يحمي الإنسان من انتقاص حريته وكرامته. تري هل يخضع الفتي لمحاولات الآخرين في السيطرة بدعاواهم المغلوطة, ويستسلم لضغوطهم, أو أنه سوف يستشعر معني عبارة المفكر الفرنسي اريمون أرونب: أن العظيم لا يتلقي أمرا, ولا يخضع للضغوط؟.