لا تحتاج بورسعيد إلي عقوبات جديدة, حتي يطالب شباب الألتراس المعتصمون امام البرلمان, بحرق المدينة بمن فيها, فما تعاني بما يكفي ويزيد, ليس فحسب لأن يخرج أبناؤها من ملابسهم. فلا يقطعون الطرق ويغلقون البوابات حتي لا يدخل إليها ولا يخرج منها أحد, بل يقطعون رقابهم ايضا من الوريد إلي الوريد. ربما يغضب مثل هذا الكلام الكثير, وبخاصة إخواننا من المتعصبين كرويا, وفي القلب منهم جمهور النادي الأهلي, لكنها كلمة حق أقولها وأفوض أمري إلي الله, بعدما كثر الكلام في حديث المذبحة واختلط الحابل بالنابل, حتي لم يعد باستطاعة المرء أن يفرق ما بين الضحية والجلاد, أو ما بين القاتل والمقتول. ويحار المرء كثيرا عندما يتابع عبر العديد من شاشات الفضائيات, والرياضية منها علي وجه الخصوص, كيف تحول هؤلاء الذين كانوا حتي وقت قريب, قريب جدا, من أبواق للنظام السابق, ويتفاخرون في مجالسهم العامة والخاصة, بعلاقاتهم الوطيدة مع نجلي مبارك, ويصبون جام غضبهم علي الثورة والثوار, باعتبارهم سبب الخراب المستعجل الذي حل علي مصر, كيف تحولوا إلي منظرين للثورة ومدافعين شرسين عن مطالبها وفي مقدمتها بالطبع حقوق الشهداء؟ لا تتعجب لأنها في النهاية إرادة الله, والراسخون في العلم يقولون هذا من أصول الشطارة والفهلوة واللعب بالثلاث ورقات, فالمحطات التي تحصد الملايين كل يوم, لا مانع لديها من أن تقتات إذا ما جفت الضروع علي الدم الحرام, وهي لن تجد غضاضة في ذلك, حتي لو جري هذا الدم انهارا في شوارع مصر. مسكينة هي بورسعيد, فلا هي سلمت من ظلم نظام مبارك, ولا أنصفتها الثورة, ولا تركها مصاصو الدم الحرام في مكانها القصي عند شاطئ المتوسط, تلعق جراحها وتداويها من طعنات الغادرين. ربما تكفي زيارة واحدة حتي يشعر المرء بمقدار هذا الألم الكبير, وتلك المرارة القاتلة التي تشعر بها بورسعيد, وهي مرارة تكفي لإذابة آلاف من جبال السكر, وأطنان من الكلام المعسول, ذلك الذي يشبه كثيرا تلك المجاملات الرقيقة التي نتبادلها عندما تتنزل المصائب, حتي إذا ما انفض السامر, وأطفئت الأنوار وانصرف المشيعون إلي بيوتهم بقيت الفجيعة للمفجوعين. لا أحد يبتسم الآن في بورسعيد, فلا شئ يمكن أن يبعث علي البهجة, لا في الصباح المثخن بعذابات البحث عن لقمة حلال في ظل كساد تجاري كبير, تعاني منه المدينة منذ سنوات بعيدة, قبل أن يحكم حصار ممنهج قبضته اللعينة عليها, ولا عندما يهبط المساء علي كافيتريات شارع طرح البحر, ذلك الذي لم يكن ينام إلا قليلا, فقد غادرت البسمة تلك الوجوه البسيطة الطيبة, وتوقفت الأيادي المعروفة عن رتق شباك الصيد علي امتداد البحر, ولم تبق إلا الذكريات. هنا هبط المظليون البريطانيون, وهنا نصب أول كمائن المقاومة الشعبية, وهناك عند حدود الجبانة القديمة, خبأت النساء الفدائيين القادمين من المحافظات المجاورة, وهناك عند المالح غنت فاطمة وناح الحمام علي اغصان الوطن. لم يبق في بورسعيد سوي الكثير من الذكريات, والقليل جدا من أمل لا يأتي, لكنها لا تزال تصر علي انتظاره, بتلك اللهفة التي كان البمبوطية يترقبون بها في الزمن الغابر, السفن القادمة من الشمال إلي البوغاز القديم, فيشتروا الحضارة بالتاريخ, والهدايا بالحكايات. أمل تترقبه بورسعيد وتعرف بحكم خبرات السنين, انه حتما سوف يجئ عندما تمتد يد العدالة إلي قتلة الشهداء, ويقبع المجرمون الحقيقيون عن ذلك الخراب الكبير, الذي يغشي مصر من شرقها إلي غربها خلف قضبان السجون, في يوم نحسبه جميعا قريبا, ويومها فقط سوف تغسل تلك المدينة الصابرة, ما علق بثوبها من دم حرام, وتلقي بنفسها إلي رحابة زرقة المتوسط لتغني من جديد للثورة والوطن [email protected]