حين يصعب علينا فهم الأشياء أو تفهيمها يثور السؤال تلقائيا: هي كيمياء؟ ولقد أطلقت الأممالمتحدة علي هذا العام الغريب(2011 م) العام الدولي للكيمياء, وتصوري أن هناك توافقا قدريا غريبا في هذا العام. بما شهده من تفاعلات وانفجارات غير مفهومة في كيمياء السياسة والشعوب, وبين كيمياء المختبر وتفاعلات المواد والجزيئات التي تحتاج هي الأخري إلي مزيد من الفهم. فما هي حكاية العام الدولي للكيمياء؟ وما هي الكيمياء؟ وهل هي صعبة إلي هذا الحد؟ إن عالما يفتقر إلي الكيمياء هو عالم تعوزه المواد الصناعية, أي عالم بدون هواتف وحواسب وسينما وأنسجة تركيبية, ثم إنه سيكون عالما لا يتوافر فيه دواء الأسبيرين والصابون ومعجون الأسنان ومستحضرات التجميل, كما إنه سيفتقر إلي الورق, بحيث لن تكون هناك صحف أو كتب, أو صموغ, أو دهانات. فالكيمياء تسهم في تلبية احتياجات البشرية من حيث توفير الأغذية والعقاقير, والكساء والمساكن, والطاقة والمواد الأولية, ووسائل المواصلات والاتصالات, ولولاها, لما كان من الممكن علاج الأمراض أو غزو الفضاء أو استخدام عجائب التقنيات. ومن ثم كان' الكيمياء حياتنا ومستقبلنا' هو شعار هذا العام الذي خصصته الأممالمتحدة للاحتفال بإنجازات الكيمياء وإسهاماتها في الحياة الإنسانية. ولقد تزامنت السنة الدولية للكيمياء مع ذكري مرور مائة سنة علي إنشاء الاتحاد الدولي للكيمياء البحتة والتطبيقية( المسئول عن تنظيم العام), والذي عقد مؤتمرا في مقر اليونسكو عن' دور المرأة في مجال الكيمياء' تقديرا وتعزيز لدور المرأة في العلوم, واحتفالا بالذكري المئوية لحصول' ماري كوري' علي جائزة نوبل في الكيمياء في حضور حفيدتها للمؤتمر. وتحت شعار' الكيمياء والتنمية' عقدت الجمعية الكيميائية المصرية احتفالا بالعام الدولي للكيمياء لرفع الوعي لدي العامة, والتعريف بأهمية الكيمياء وإظهار دورها في حل المعضلات العالمية وجذب الصغار لهذا المجال, ولكن فيما يبدو فإن كيمياء السياسة وتفاعلاتها التي طالت المنطقة كلها حجبت أصداء الاحتفال المصري بالكيمياء, وكان الأولي باحتفالنا أن يكون مميزا ومسموعا في الدنيا كلها, فلقد أسهم المصريون- قبل الميلاد بنحو4000 سنة- في نشأة علم الكيمياء وتطورها, فهم أول من استخلصوا المعادن من خاماتها وصنعوا منها السبائك مثل البرونز, كما صنعوا الفخار والزجاجيات, وحضروا الأصباغ وألوان الزينة والطلاء, واستخلصوا الكيماويات من النبانات للدواء والعطور, وصبغوا الملابس, ولونوا الجلود. وجاءت حضارة وكيمياء الإغريق(332 ق.م 642 م) إلي الإسكندرية لتنهل المعرفة من أكبر مكتبة في العالم, حيث اجتمع فيها الباحثون والعلماء, لتجري المناقشات حول طبيعة المادة ومكوناتها وتكوينها, تلتها كيمياء العرب(642 1200 م), حين فتحوا مصر, وعدل' جابر بن حيان' نظريات الكيمياء, وأسس' أبو بكر الرازي' الكيمياء الطبية, وطور آخرون عمليات التحضير والأجهزة. بعدها انتقلت الكيمياء إلي أوروبا1300 م حتي الآن) لتبني علي كيمياء العرب وتضع إطارا للكيمياء الحديثة كما نعرفها اليوم. وهكذا تطور فكر الكيمياء علي مر العصور من البحث عن حجر الفلاسفة الذي يستطيع تحويل المعادن الرخيصة( الأساسية) إلي الذهب بمجرد اللمس, إلي محاولات الفهم العميق لأسس الكيمياء العلمية من خلال نظرية' دالتن' الذرية وجدول' ماندلييف' لترتيب العناصر, ورصد' زويل' لتفاعلات تجري بسرعات هائلة. لقد كنا كعرب ومصريين- رواد الكيمياء والعلوم, فهل نتنبه إلي تحسين تعليم كيمياء الغد, وتكوين وتأهيل كيميائيي المستقبل, ونعمل علي توفير الإمكانيات للشباب لفهم العمليات الكيميائية وتقييم ما ينجم عنها من تبعات, فالاهتمام بهذا الفرع من العلوم المشوق إنما يعتبر مصدرا لتحقيق التنمية, وعلينا العمل علي نشر' ثقافة عامة في مجال الكيمياء', لانتفاع الأفراد بالحقائق الكيميائية التي تؤثر في حياتنا اليومية, والتي تتيح لنا أن نكون أطرافا معنية بهذه الحقائق, ونتمني أن تتضافر الجهود لتصبح إحدي أولويات السنوات المقبلة تحقيق أفضل فهم لاكتشافات العلوم بوجه عام, ولاكتشافات الكيمياء بوجه خاص. نتأمل عام الكيمياء الذي يكاد ينقضي, ففي التفاعل الكيمائي تتحول بعض المواد إلي مواد أخري, حيث تتكسر الروابط وتتكون روابط جديدة من خلال التفاعلات الكيميائية, لتنتج عنها مواد جديدة, لها خواص فريدة, ولكن صعوبة الكيمياء تكمن في أننا نتعامل مع جسيمات متناهية الصغر لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة أو حتي بالمجهر, ونتابع تفاعلات تجري بسرعة فائقة, لا نستطيع أن نرصدها حتي بأسرع أجهزة الرصد, ونحصل علي تراكيب لا يمكن التعرف عليها بطرق عادية أو مباشرة, فيصبح الأمر غامضا وكأنه من أعمال السحر. وعلي الرغم من تعذر رؤية التفاعلات الكيميائية في المختبر فقد فهمنا قواعدها, واستوعبنا أسباب التغيير الحادث للمواد, وأدركنا كيف يتم تحفيز التفاعل ليتجاوز حاجز الطاقة, وعرفنا كيف يمكن إتمام التفاعل, وما هي الأسباب التي تؤدي إلي إيقافه. ولكن في كيمياء الحياة يصعب علينا فهم التفاعلات السياسية رغم أننا نراها رؤية العين, ولا ندري لماذا يتم تسميم التفاعلات الثورية, ويلقي عليها بشوائب العمالة والخيانة, أو الغازات السامة, ويقتل المتظاهرون السلميون, وتسحل النساء, في محاولة لرفع حاجز الخوف لإجهاض التفاعلات الثورية. كيمياء المختبر تكون فيها الحسابات دقيقة, حتي نضمن عدم حيود التفاعل أو شططه, أو تسميمه أو انفجاره, وفي كيمياء السياسة في منطقتنا لم يحسن أحد الحساب, فتعرضت التفاعلات للشطط والافلات والانفجار. إنه عام غريب, وأتصور أنه سيحتل مكانة خاصة في كتب التاريخ, فلقد حدثت فيه أشياء كثيرة, وسيسجل العالم أنه خصص عام2011 م لفهم الكيمياء, ولكنه سيسجل أيضا أن تفاعلات الشعوب أنتجت كيمياء خاصة جدا تحتاح إلي أعوام طوال حتي نفهمها.... إن فهمناها!! جامعة الإسكندرية