ربما يعطي عنوان المقال إيحاء بالرومانسية العلمية, ولكنه يمثل دعوة للقراء من محبي العلم والتفكير العلمي للمشاركة معنا بشكل عام في إثبات أهمية المنهج العلمي في فهم الكون وتغييره. وبشكل خاص في الاحتفال بالعام الدولي للكيمياء وللتعريف بدور الكيمياء في الحياة وتقدم البشرية, إذ تم اختيار هذا العام2011 نظرا لمرور مائة عام علي حصول ماري كوري كأول امرأة تحصل علي جائزة نوبل في الكيمياء. ولم يخطر ببال أحد في مصر أن يكون احتفالنا بهذا العام علي هذا النحو الثوري الرائع, إذ تأتي روعة تلك الأيام العظيمة في نهاية الشهر الأول للعام الدولي للكيمياء لتنقل اهتمامنا من الحديث عن ثورة الكيمياء إلي الدخول في مجال أكثر تشويقا وإثارة هو كيمياء الثورة. أولا: جدل الثورة في العلم في زمن تفريغ الإيديولوجيات لقد ظلت الكيمياء لعصور طويلة ترتبط بالسحر وأوهام تحويل التراب الي معادن نفيسة وبالعمليات الغامضة التي راقبها واستخدمها الانسان أثناء الاحتراق وفصل المعادن كالذهب والنحاس والحديد وصنع السبائك والبارود والورق والطوب, وأيضا العمليات الحيوية كالتخمر وإنضاج الطعام وحفظ الأطعمة وتخزين الحبوب وتعطين الكتان والصباعة والتحنيط ولم تكن الكيمياء في ذلك الحين علما بل فنا تقنيا أو تكنولوجيا يستفيد بالعمليات الكيميائية دون فهم قوانينها أو آلياتها, لقد سبقت التكنولوجيا العلم لآلاف السنين. ثم بدأ العلم في القرون الأربعة الأخيرة يستفيد بأسس العلم البدائي التي انتقلت من مصر القديمة واليونان إلي العلماء العرب الذين أرسوا المباديء المنهجية للقياس الكمي والكيفي وفصل العناصر والمركبات وتصنيع الأحماض والأقلاء خلال مرحلة الحضارة العربية التي سلمت مشعل العلم والحضارة في العصور الوسطي لأوروبا في عصور التنوير والتنافس الاستعماري لاكتشاف العالم القديم والجديد جغرافيا ثم دخول عصر الثورة العلمية والاكتشافات العلمية الحديثة, لتتسارع تراكمات نتائج العلوم المختلفة وتفاعلها المتبادل لنشهد منذ القرنين الأخيرين سباقا بين العلم والتكنولوجيا لتخفيض الوقت بين الاكتشاف العلمي وتحوله لمنتجات وتطبيقات تكنولوجية مفيدة. فتطور الأجهزة العلمية للقياسات الدقيقة نتيجة لتطور علم الفيزياء ساعد في بحوث الكيمياء الحديثة. وعلي سبيل المثال فقد شهد القرن التاسع عشر تأسيس علم الكيمياء الحيوية علي يد لويس باستير ثم تسارع التطور العلمي في القرن العشرين ليشمل الكيمياء الدوائية والتحليلية والكهربية والنووية والضوئية تمثل كلها ثورة لعلم الكيمياء الحديث. كما كانت ثورة اكتشافات البلاستيك وتطبيقاتها الواسعة ثم أشباه الموصلات ثم صناعة الترانزيستور والدوائر المتكاملة وتصنيع الألياف الضوئية لتنتقل ثورة الصناعة الالكترونية نحو الثورة المعلوماتية, وتفاعلت الثورة العلمية المتسارعة مع الثورات التكنولوجية لتحتشد مصطلحات الثورات العلمية والتكنولوجية في أجهزة الإعلام وتطغي علي مفاهيم الثورة الاجتماعية والسياسية والثقافية التي كانت تهيمن علي فكر المثقفين الثوريين طيلة القرنين الماضيين. تزامن هذا الإغراق الإعلامي الغربي بمفاهيم الثورة العلمية التكنولوجية منذ منتصف القرن الماضي مع سيادة الفكر المحافظ وبدء عمليات التفريغ الإيديولوجي أو العداء للفلسفة والتهكم علي الثوريين وأصحاب الفكر والثقافة الثورية ضمن عملية التنافس الرأسمالي بين المعسكر الرأسمالي الاحتكاري وبين المعسكر الشرقي الاشتراكي, حتي اندلعت انتفاضات الشباب في عام1968 في العديد من الدول الغربية وأمريكا للتمرد علي فكرة الانسان ذي البعد الواحد الذي تتنافس دول الشمال المتقدم في المعسكرين علي بنائه ليكون وقودا لتلك المنافسة الإنتاجية وشحن الشباب بقيم الاستهلاك والتنافس وتراكم الثروة. لقد تحولت معادلة الديمقراطية التي يحترمها الغرب في الشمال إلي ضمان الاستقرار في دول الجنوب التابعة للاستعمار القديم الذي عاد ليهيمن علي مستعمراته القديمة بالاستحمار أو الديون والتبعية الغذائية والتكنولوجية والثقافية والإعلامية دون الحاجة للجيوش, والتشجيع ضد الاستقرار في الدول التابعة للمعسكر الاشتراكي خلال مرحلة الحرب الباردة بين المعسكرين. ثانيا: لغز الثورة من تحولات التراكم الكمي إلي تحولات البنية منذ يناير2011 تشهد ثورات شعبية ليست مجرد انتفاضات شباب في تونس ثم مصر, بل تشمل كل الفئات والطبقات والأعمار وتغطي كل أراضي الوطن, ليعود للثورة بهاؤها وروعتها وأحلامها في التغيير الاقتصادي الاجتماعي الثقافي السياسي دون الانحصار في وصفة الإصلاح الديمقراطي, وتنتشر عدوي الثورة في العديد من الدول العربية من الجزائر الي اليمن والبحرين والأردن. هذا الإلهام الثوري يجعلنا ننتقل من الكتابة عن بنية الثورات العلمية والتكنولوجية وملاحقة الأبحاث والإنجازات العلمية لنجد أنفسنا في حاجة حقيقية لولوج منطقة الفهم والتحليل والاقتراب من ألغاز وأسرار كيمياء الثورة, مثلما ينشغل المفكرون والفلاسفة وعلماء النفس والاجتماع بكيمياء الحب وكيمياء الإبداع وكيمياء التسامي الأخلاقي للفدائيين والاستشهاديين ولاهوت التحرير. يحتار الثوريون والمحرضون عندما يتفاقم الظلم والاستبداد, ويرددون اشتدي أزمة تنفرجي ويراهنون علي قانون تحول التراكم الكمي للاحساس بالظلم والتمرد والثورة, وعندما تتأخر الثورة وتفشل التوقعات والرهانات تحل محلها مشاعر الحيرة والإحباط والاتهام للشعوب بالخنوع والاستكانة والمهادنة وكأن عوامل مثل جينات الركود السياسي المتوارثة والطبيعة الهادئة للنهر والتاريخ الطويل للاستعمار والقهر استطاعت هزيمة الحلم بالثورة, لتبدأ ألغاز العجز عن التحرر تطرح تحديات لفهم جدل الثورة. قاد التفكير العميق في هذه الألغاز د. محمد عامر استاذ الرياضيات بجامعة القاهرة لإعادة النظر في قانون تحول تراكم الكم إلي كيف في بحث ألقاه في السوربون عن الكم والكيف والبنية, فأدخل مساهمات نظرية الكل التي تشير لعلاقات التشكل للبنية ليصحح ويدقق صياغات فريدريك انجلز وأمثلته عن تحول الماء السائل إلي بخار, فالتحولات في البنية المصاحبة للتراكم الكمي هي الشرط الضروري لانجاح النقلة الكيفية أو الثورية, وأن الهدف من إحداث التراكم الكمي هو تغيير البنية وليس المزيد من التراكم في البني القديمة. ثالثا: الثقافة وآليات الاتصال كعامل مساعد لخلق الخيال الثوري تحتاج البني الجديدة لخيال ثوري يصنعها ويتطور معها عبر تفاعلات معقدة, كما تحتاج هذه التفاعلات المعقدة لعامل مساعد حفاز كاتاليست لتسريعها وتثبيط التفاعلات الضارة بالتفاعل الثوري, كانت الثقافة الثورية ومازالت من أهم العوامل المساعدة, وكانت آليات الاتصال والتشاور من المدونات والمجموعات البريدية تمهد السبيل لأوسع فرص الخلق والإبداع والتشاور والفرز الفكري والنفسي ولكنها كانت تأملات في الواقع الافتراضي أكثر منها حركة في أرض الواقع الملموس, وانطلقت حركات الصدام والاحتجاج من الشارع والجامعة والنقابة والمصنع والمسجد والكنيسة والحي الشعبي والقرية في العقد الأخير, لتلقي مزيدا من الزخم والخبرة للفيسبوك. يقول الشيخ عز الدين القسام في حديثه عن الثورة وضرورة رعايتها وحمايتها, ان الثورة كالجمرة تحتاج للهواء دون إسراف فيه أو خنق له كانت المعلومات والأحاديث والمناقشات متاحة وتسمح للحكومات بالمراقبة والتنصت, واضطرت النخب والجماهير التي حاصرتها حشود الأمن وقوات فض الشغب والحرب الإعلامية ضد محاولات الدعوة للإضراب العام من المجموعات البريدية والقوي الاجتماعية والسياسية للمناورة والإبداع في التمويه والتشتيت لقوي الأمن خلال المظاهرات التي تنطلق من أكثر من مسجد أو ميدان. الخيال الثوري صنع بنية قيادية لامركزية تعبر عن تشبيكات لانهائية لمجموعات لا تعرف بعضها البعض. ولكنها تثق بأن العدو المشترك يوحدها لرفع شعار وحيد هو التظاهر لاسقاط النظام في عموم البلاد, في كل المحافظات, في كل الميادين الكبري. كان قانون فعل الكتلة في التفاعلات الكيميائية يشرح دور تناسب سرعة التفاعل مع درجة التركيز لمواد التفاعل وقواها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ولكن قانون فعل الكتلة الثقافية الثائرة كان يؤثر في بقية قوي المجتمع بفعالية عالية ليثبت أن الثورة الثقافية تولد الثورة الاجتماعية والسياسية وتسهم في التحضر لها وتصنع خيالها وبنياتها الجديدة. كما لعب قانون الكتلة الحرجة في تفاعلات الكيمياء النووية دوره حين انطلقت مظاهرات الآلاف من الأحياء والقري والميادين العامة, لتصب في ميادين العاصمة بكل محافظة لتصنع المظاهرة المليونية الحاشدة الهادرة التي تعني أن التفاعل المتسلسل لن يتوقف حتي يسقط النظام القديم.