إن أشد الناس تشاؤما لم يكن ليتخيل ما آلت إليه أوضاع الثورة المصرية, فما كادت تنتهي فورتها البيضاء الناصعة إلا وبدأت حممها بالاختلاط بكل الشوائب المجتمعية التي زرعها النظام البائد علي أرضها. و ما أن بدأ المجلس العسكري مهامه الانتقالية التي ارتضاها الشعب, إلا وبدأت أكبر عملية ابتزاز للدولة وللثورة معا. خرج الموظفون وكأنهم علي موعد وترتيب مسبق بمطالبهم الفئوية, التي استنكرها الثوار في بادئ الأمر لشبهة النفعية بها, ثم عادوا يهللون لها بعد ذلك في مظاهراتهم واعتصاماتهم ضد المجلس العسكري بالنفعية ذاتها التي انتقدوها سابقا. الغاية تبرر الوسيلة إذن, وإذا كان هذا حال الدنيا دائما, فلماذا لم يتفاوض الثوار بزعامة الليبراليين مع المجلس بهذا المنطق السياسي الأثير ليأخذ كل منهم ما أراد؟, ليجيبك بعضهم الأكثر تشددا بأنه لا تفاوض في مطالب الثورة وأن الشرعية الثورية لا تعرف السياسة, ويجيبك البعض الآخر الأكثر أخلاقية من وجهة نظرهم طبعا بأن المبادئ لا تتجزأ, وهذا عطف علي ما روج له البعض من خروج آمن للمجلس, وكأن المجلس لا يشغل باله في كل ما مضي إلا خروجه الآمن, وأنه ليست له اعتبارات مؤسسية وسيادية يرعاها لمصلحة الوطن لا لمصلحة المجلس أو المؤسسة فقط, في التسليح, والعتاد, والموارد, والتصنيع الحربي, والتخابر, ومصادر التمويل الذاتي, وبنية الدولة الموازية إذا ما تعرضت الدولة لمخاطر الدمار الشامل. كل هذا لا يهم, المهم أن يخرج العسكر كما يسمونهم, ولا مانع لدي البعض من خروج آمن لهم هم لم يطلبوه, والبعض الآخر يرفضه عليهم وهم لم يطلبوه أيضا, والكل في هذا السياق يطلب خروجهم المبكر, وهم مستمتعون بحالة البين بين التي عليها المجلس الآن, بين شرعية الثورة التي ارتضته حاكما انتقاليا وبين اللاشرعية الانتخابية التي أتت بهم إلي الحكم الانتقالي, وهي أنسب حالة بطبيعة الحال لممارسة الابتزاز. ولعل في هذا ما يفسر محاولة البعض الأخير المستميتة للحيلولة دون البدء في أولي خطوات انتقال الدولة للشرعية الانتخابية, ولما فشلت وجاءت الرياح بما لا تشتهي السفن, بدأ البعض بخفة ظله الثورية في التغزل في الإخوان بعد هجومهم الشرس عليهم من قبل وإقصائهم عن الثورة والوطن معا, في محاولة لجرجرتهم للصدام مع المجلس, واستكمالا للاستخفاف الثوري بدأ البعض الآخر في التأجيج لصراع مع المجلس والإسلاميين معا في الدعوة للخلاص من العسكر أولا وبعدها يصبح التعامل مع الإسلاميين أمرا يسيرا, في ابتزاز آخر, للثورة هذه المرة لا للمجلس. ويبدو أن الموظفين بعد اكتساح الإسلاميين, قد بدأوا الإعداد لموجة فئوية ثانية, وكما كانت الأولي تحمل طابعا ثوريا بعد الثورة مباشرة, علي طراز مش حنمشي هو يمشي, بدت الموجة الثانية إسلامية الطابع تحمل لواء الفضيلة علي طراز اللي ما عندوش زبيبة يمشي, واللي عنده دقن يقعد. والإسلاميون, خاصة الإخوان, بدأوا هم الآخرون ابتزازهم شبه الصامت للمجلس برفضهم الدخول في تشكيلة المجلس الاستشاري الذي لا أعرف بالضبط ما هو دوره هو الآخر بحجة أن المجلس تتداخل اختصاصاته مع كل من البرلمان المنتظر أو حكومة الأغلبية المنتظرة, رغم أن هذا البرلمان معروف سلفا ومنذ استفتاء مارس الماضي أنه برلمان منزوع الصلاحية, لا يشكل حكومة ولا يستأثر وحده بوضع الدستور. والدولة في كل هذا تبدو في أضعف صورها, متخاذلة, ومهادنة, قياداتها في كل الأروقة الحكومية مرتعشة, تخضع لكل أشكال الابتزاز الذي في العادة يمارسه أردأ أنواع الموظفين وأفسدهم علي الإطلاق, تحميهم شبكة عنكبوتية من موظفي الأمن والشئون الإدارية والقانونية في دواوين الحكومة المتخمة بهم, وتساندهم في الإعلام المقروء والمسموع والمرئي فئة غير قليلة من مرتزقة الأخبار المفبركة والبحث عن الفضائح, لا رادع يردعهم, ولا قانون يلجأون إليه ينصفهم وينصف سمعتهم الوظيفية التي تمرمغت في وحل حمم الابتزاز الثوري. وأصبحت الأغلبية الصامتة أو حزب الكنبة كما يسميه البعض مذعورة مما يحدث حولها من انتهاكات للخصوصية والأمن والأدب والإبداع والفكر والسياسة وكل مظاهر الحياة المدنية التي ناضلت مصر من أجلها قرونا طوالا, وقد تحولت الثورة إلي نزوة, تحولت معها اللعبة السياسية بالكامل إلي لعبة ابتزازية, تدنت فيها الغاية التي تبرر الوسيلة إلي أدني مستوياتها بحيث أصبحت معها الغاية غاية, البقاء فيها ليس للأصلح أو الأقوي, وإنما للأكثر ابتزازا.