يبدو أن أفكار الشر اختمرت في ذهنه منذ نعومة أظافره تحاول أن تجد لها سبيلا للخروج; فكان قاسما مشتركا في المشاجرات وافتعال المشكلات مع الأطفال والجيران وكأنه يحلم أن يصبح يوما ما من الأثرياء وأصحاب السطوة ممن يعمل لهم البسطاء في القري ألف حساب. استقبل الأب لحظة ميلاد طفله الأول بفرحة شديدة, وفي اليوم السابع من مولده طاف به أزقة القرية داعيا الأهل والأحباب لتناول طعام العقيقة فالتف الكبار والصغار حول الطفل الجديد, كل يجود بما يستطيع من النقوط مجاملة للوافد الجديد وسط دعوات الشيوخ بأن يباركه الله ويجعله سندا لأبيه وأسرته في الخير عندما يكبر ويشب. منذ السنوات الأولي من عمره ودخول محمود مرحلة المراهقة, خابت ظنون الأب العامل البسيط عندما فوجئ ذات يوم بأن فلذة كبده الذي انتظر يوما ما لحظة ميلاده بفارغ الصبر قد انحرف عن مساره التعليمي, ولم يكتف محمود بذلك, بل سقط بين أحضان مجموعة من قرناء الشر معتقدا بأن هؤلاء هم من سيقودونه نحو تحقيق طموحه وحلم حياته في الثراء السريع سواء حراما كان أم حلالا, ليبدأ الأب رحلة العذاب التي قهرته وجعلته محل انتقاد عائلته المعروفة. ظلت محاولات الأب المكلوم في استعادة ابنه متواصلة, تارة عن طريقه وأخري من خلال أشقائه وأولاد عمومته, لم يكن محمود متأهبا للإصغاء إلي النصح بعد أن سيطر أصدقاء الشر علي تفكيره, خاصة وقد سقط في بئر الإدمان, مما جعل أباليس الإنس يسخرونه لترويج السموم البيضاء التي أدمنها بشراهة فصار يبحث ويفتش عنها في كل مكان, حتي وسوس له الشيطان بفكرة الاتجار فيها ولو بكميات صغيرة تبيع منها ما تستطيع تصريفه وتبقي علي الجزء المتبقي منها لزوم كيفه, ومن هنا جاءت بداية طريق محمود الذي قاده إلي السجن. وبمرور السنوات ذاع صيت محمود بين تجار السموم البيضاء لبراعته في الهروب من رقابة عيون رجال المباحث التي كانت تتبع خطواته متحينة الفرصة المناسبة للقبض عليه, وهو ما جعله موضع ثقة بين هؤلاء التجار من أرباب السوابق ومحترفي تدمير عقول الشباب, وبعد أن جري المال بين يديه وتبدلت أحواله المادية تماما ليصبح من كبار التجار, أطلق محمود علي نفسه لقب ابن حميدو وكان حريصا علي ارتداء أفخر الثياب البلدية والحلي الذهبية غالية الثمن ليثبت للجميع أن محمود الأمس غير ابن حميدو الآن, مما أدهش أقرانه الذين بادروا بالاتصال بأهله من منطلق خوفهم علي مستقبله من الملاحقات الأمنية التي كانت تطارده بين حين وآخر. ولأنه كان مغرما بالأفلام العربية الشهيرة التي تناولت في قصصها تجارة المخدرات, ومنها سمارة وحبيبي الأسمر وابن حميدو, استعان محمود بعدد من المشبوهين لمساعدته في تجارته المحرمة التي توسعت فاستعار أسماء أبطال هذه الأفلام ليطلقها علي معاونيه مثل الباز ومضحكة ودونجل وعجلة وسلطان واتخذ لنفسه لقب ابن حميدو, لتكون هذه الأسماء هي كلمة السر بينهم في الاتصالات الهاتفية التي تحدد بؤر لقاءاتهم وأماكن التوزيع, وبرغم محاولات الحيطة والحذر التي كانت عصابة ابن حميدو تلجأ إليها للتنقل ما بين القري, فإن العيون الساهرة التي لا تنام نجحت في ضبط رأس الأفعي محمود ليسقط في براثن قضيتي مخدرات وحيازة سلاح ناري دون ترخيص, ومع هذا لم يبال ابن حميدو بهذا الإنذار الخطير الذي كتب له القدر أن ينجو منه بسبب ثغرات في الإجراءات, ليخرج محمود من القضيتين أشد إصرارا علي مواصلة مشواره نحو تحقيق حلمه الزائف رافعا شعار الغاية تبرر الوسيلة. لم يكن نشاط محمود بعيدا عن رقابة رجال المباحث الذين التقطوا طرف خيط الخلاف بينه وبين معاونيه, حيث تتبع رجال الشرطة السريين خطواته معتمدين علي استنباط معلوماتهم من المدمنين والعملاء وكذا أصدقائه القدامي, وبعد أن أكدت تحريات رجال البحث بأن الهدف قد عزم علي تسلم كمية من البانجو في إحدي المناطق النيلية التي اتفق علي تمويه تسميتها ببطن الزير, توصلت المعلومات إلي تحديد نقطة التسلم علي شاطئ النيل, حيث تم وضع كل التحريات أمام اللواء إبراهيم مبارك مدير المباحث الجنائية بمديرية أمن أسوان, وبناء علي تكليف من اللواء نائل رشاد مساعد وزير الداخلية ومدير الأمن بسرعة ضبطه والتأكد من دقة وسلامة الإجراءات القانونية حتي لا يفلت الهدف منها كالعادة مستغلا ثغرات القانون, تحرك فريق من رجال مباحث إدفو بالتنسيق مع إدارة مكافحة المخدرات إلي المنطقة المحددة, وهناك تم مداهمته ليسقط بحيازته2 كيلو جرام من البانجو وسلاح ناري لزوم الدفاع عن النفس. وعلي الفور اقتاده رجال المباحث إلي ديوان المركز لتحرير المحضر اللازم وابن حميدو يردد ليتني ما فعلت هذا طالبا الصفح من والده قعيد الفراش, وأمام النيابة مثل محمود للتحقيق ليأمر وكيل النائب العام بحبسه وإحالته للمحاكمة العاجلة.