يعتبر مؤتمر ميونيخ للأمن واحدا من أهم المحافل الدولية السنوية لمناقشة قضايا الدفاع والشئون العسكرية علي الصعيد الإقليمي والدولي, وكذا يعد بمثابة منتدي تعبر فيه الدول والقوي الإقليمية عن سياساتها المتبعة في الأمور ذات الصلة. وقد انعقد المؤتمر في الفترة بين15-18 فبراير, وكان للوفد المصري برئاسة وزير الخارجية السفير سامح شكري حضور بارز في مناقشة قضايا الإقليم والعالم. في العام الماضي, اقترب العالم من بعضه بشكل كبير جدا علي حافة نزاع كبير.كتب هذه العبارة رئيس المؤتمر السفير فولفغانغ إيشينغر في مقدمة تقرير المؤتمر الذي جاء تحت عنوان إليحافة الهاوية- والعودة؟ حيث يأتي المؤتمر في توقيت حساس تشتعل فيه أزمات علي الصعيد الإقليمي والدولي علي حد سواء كالأزمة بين السعودية وإيران, والتوترات بين الولاياتالمتحدة وأمريكا الجنوبية. وبقدر ما, فإنه يمكن اعتبار مؤتمر ميونيخ كمجلس أمن دولي مصغر من حيث نوعية الموضوعات المتناولة وطبيعة المشاركين. وعلي الرغم من أن رئيس وزراء تركيا وأمير قطر كان لهما النصيب في إلقاء كلمة عامة أمام المؤتمر, إلا أن مصر لم تنل هذه الفرصة, إذ شاركت مصر في إحدي الجلسات المشتركةكمتحدث, في حين عقد الوفد22 اجتماعا مع وزراء ومسئولين أمنيين من مختلف الدول والمنظماتتنوعت بين لقاءات ثنائية وجلسات عمل, تم فيها التباحث حول أمور الدفاعوالأمن الداخلي وإجراءات محاربة الإرهاب. واستعرضت كلمة مصر التي ألقاها الوزير السبت17 فبراير خلال الجلسة الخاصة بمكافحة الإرهاب والتي جاءت تحت عنوانالجهاد فيما بعد الخلافة,رؤية مصر الشاملة في مكافحة الإرهاب. وتحمل الكلمة في طياتها عدة رسائل دبلوماسية تكشف عن منطلقات وثوابت سياسة مصر إزاء سبل تفعيل العمل والتعاون الدولي للقضاء علي هذه الظاهرة محليا ودوليا. الرسالة الأولي:التفرقة بين الإسلام والإرهاب كثيرا ما تختلط علي البعض فكرة الربط بين الإسلام والإرهاب, وقد ظهر هذا في اختيار عنوان الجلسة. وفي هذا الصدد, تبدي مصر الاعتراض علي هذا الفهم الخاطئ للإسلام وتدعو إلي التفريق بين الإسلام كدين يدعو للسلام والأمن وبين الجماعات التي تتخذه شعارا لتحقيق أهدافها ومطامعها السياسية وأداة لجذب المقاتلين, علي أن ما يقوم به تنظيم داعش أبعد ما يكون عن فكرة الجهاد السامية التي ترتقي بالنفس وأنه لا يمكن وصف داعش إلا بالتنظيم الإرهابي ولا مجال تشبيه فترة حكمه بعصر الخلافة الإسلامية التي أنارت طريق الحضارة للإنسانية جمعاء. علاوة علي ذلك, فإن هذه التنظيمات تأوي كثيرا من المقاتلين الأجانب الذين ينحدرون من أصول غير مسلمة بالأساس. تأتي هذه التفرقة كجزء حاضر في الخطاب المصري للعالم الخارجي; ولاسيما وأن مصر أكبر الدول الإسلامية والعربية التي تأخذ علي عاتقها الدفاع عن صورة الإسلام في نشاطها الخارجي.ويلعب الأزهر الشريف باعتباره المؤسسة الدينية الأهم في العالم الإسلامي والمؤسسات الدينية الأخري دورا مهما في تجديد الخطاب الديني ونشر وترويج التفسير الصحيح للدين للنأي بالشباب عن الانحراف للإرهاب. الرسالة الثانية: محاسبة الدول المتورطة تضع الرؤية الشاملة التي تتبناها مصر القاهرة دائما في مواجهة الدول التي تتنصل من مسئولياتها تجاه مكافحة الإرهاب, والدول الأخري التي تكيل بمكيالين وتفرق بين الجماعات الإرهابية علي أساس المصلحةالسياسيةولا تعتمد مبدأ ثابت لتصنيف هذه الجماعات التي تدين بولاء واحد وتنتهج فكرا واحدا. وفي هذا الصدد, تدعو السياسة الخارجية المصرية إلي أهمية محاسبة الدول التي توفر تمويل الإرهاب تحت ستار العمل الخيري أو باستضافته, أو التي تسهل من عودة وتنقل المقاتلين الأجانب دون أدني اعتبار لدواعي الأمن في المنطقة, في انتهاك صارخ لقرارات مجلس الأمن والمجتمع الدولي. وكدليل علي انخراط بعض الدول في أنشطة الإرهاب, ذكر الوزير المصري مثال الكميات الضخمة من مادةC4شديدة الانفجار التي وصلت إلي سيناء عبر الشبكات الإرهابية العابرة للحدود, في حين أنه يتم تتبع تنقل هذه المواد بواسطة الأقمار الصناعية المخابراتية مما يشير إلي تورط حكومات وأجهزة مخابرات معينة في دعم وتسهيل الأنشطة الإرهابية. وفي هذا الإطار, تتساءل مصر عن كيفية انتقال قواعد وأعضاء داعش من الرقة إلي سيناء وليبيا واليمن والصومال عبر الحدود الدولية. كما تعبر مصر عن اعتراضها علي قيام بعض دول الاتحاد الأوروبي بالدفع نحو رفع أسماء منظمات إرهابية معروفة من قوائم الاتحاد.بيد أن مصر لم تسم دولا بعينها في هذا الاتجاه, مما قد يكون فرصة ضائعة علي الدبلوماسية المصرية لإحراج بعض الدول أمام الرأي العام العالمي في هذه المناسبة, ذلك في حين استغلت دول أخري هذه المنصة للدفاع عن سياستها بضراوة كالتجاذب الإيراني-الإسرائيلي, والتجاذب بين وزير الخارجية التركي والأمين العام لجامعة الدول العربية. الرسالة الثالثة: عملية سيناء ليست نهاية المطاف استعرضت كلمة مصر الجهود الوطنية المبذولة للقضاء علي الإرهاب في مصر, وأشارت إلي المعركة التي تخوضها القوات المسلحة والشرطة لتطهير شمال سيناء من عناصر الإرهاب في إطار العملية سيناء2018, حيث إنها لن تتوقف إلا بعد اجتثاث وتجفيف منابع الإرهاب في الداخل المصري, والتي لا تقتصر علي البعد الأمني والعسكري فحسب, فثوابت الموقف المصري تقوم علي تحقيق توازن بين البعدين الأمني والتنموي ومعالجة الأسباب الجذرية الاقتصادية والاجتماعية والأيدولوجية المؤدية للتطرف لمنع انضمام إرهابيين جدد إلي هذه الجماعات, مع الحرص علي الحفاظ علي أرواح المدنيين. وتشدد مصر علي أن ما تحقق من نصر عسكري ضد داعش لا يجب أن يمثل نهاية المطاف, بل خطوة مهمة نحو تفكيك والقضاء علي هذه الشبكات بطريقة شاملة ومتسقة وإلا ستظهر في أماكن أخري. فتعتبر السياسة المصرية أن داعش والنصرة وأحرار الشام وبيت المقدس وبوكو حرام ما هي إلا جماعات, وإن تباعدت جغرافيا واختلفت اسماؤها, إلا أنها لا تعمل بمعزل عن بعضها حيث يربطها الفكر الواحد والتنسيق فيما بينها. الرسالة الرابعة: مضاعفة المجهود الدولي والثقة في قدرات الدولة المصرية. تؤكد السياسة الخارجية المصرية, الحاجة الماسة لبذل جهود مضاعفة لمواجهة الإرهاب داعمة لمجهودات الدولة القومية, خاصة فيما يتعلق بتمويل الإرهاب وتوفير الملاذ الأمن للعناصر الإرهابية, الأمر الذي يستوجب تحركا علي المستوي الوطني والدولي. وفي هذا الإطار, تنطلق ثوابت السياسة الخارجية المصرية من الحرص علي عدم التدخل في شئون الدول والنأي بها عن الانزلاق في حروب أهلية وطائفية, وكذلك تشجع المجتمع الدولي علي الانخراط في سياسات إعادة إعمار الدول التي دمرتها الحرب. وفي رد علي سؤال من مدير الجلسة بشأن التقارير الصحفية التي تحدثت عن قيام إسرائيل بعمليات عسكرية علي أرض سيناء, ذكر الوزير المصري أن هناك تعاونا استخباراتيا ومعلوماتيا قائما بين مصر وإسرائيل مشيرا إلي أن هذا حق أصيل للدولة المصرية.أما الفعل علي الأرض فيقتصر فقط علي القوات المسلحة والشرطة المصرية وأن الدولة واثقة في جدارتهما علي القضاء علي الإرهاب. وفي هذا الصدد, تدعو مصر الاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدة إلي مزيد من التعاون بخصوص تقديم المعلومات الاستخباراتية الكافيةوالمعدات اللازمة للأجهزة المصرية لتمكينها من التصدي للإرهاب, ذلك أن مصر تقف علي خط المواجهة مع الإرهاب, حيث ذكر الوزير في كلمته نحن ندفع الثمن, لكن علي الأقل امنحونا الموارد. الرسالة الخامسة:: تسمية الأشياء بمسمياتها إن نهج مصر في التعامل مع الإرهاب يتجاوز التفرقة الزائفة بيت التطرف القائم علي العنف مقابل اللاعنف, علما بأن التطرف بطبيعته هو نقطة الاتجاه نحو العنف والإرهاب, وبالتالي ترفض مصر السماح للمتطرفين بالعمل تحت أي ستار لخدمة نفس الأهداف, وتري أنه يجب مواجهة جميع التنظيمات المسلحة الخارجة علي الدولة دون تفرقة بين جماعة إرهابية وأخري. وعلي الجانب المصري, يري البعض أن الدولة المصرية تنكل بمعارضيها وتضعهم في خانة الإرهاب مما يقود بالضرورة إلي أهميةتحديد الخطوط الفاصلة بين العمل السياسي والإرهابي بشكل واضح. وتدين القاهرةبوضوح ازدواجية المعايير التي يتبعها المجتمع الدولي في التعامل مع الكيانات الإرهابية سواء عند توصيفها أو في تحديد الأسباب الجذرية للإرهاب, وكذا المطالبة بالدفاع عمن يحرض علي العنف تحت دعاوي حرية التعبير مما قد يسهم في إعطاء تبريرات خاطئة للإرهاب تثير القبول والتعاطف مع الإرهابيين. وتدعو مصر إلي أهمية التوصل إلي تحديد تعريف متفق عليه للإرهاب وفق أطر القانون الدولي وليس عبارات فضفاضة وملتبسة مثل التطرف العنيف أو وصف الحركات الإرهابية بالمتمردين أو المسلحين. وقد أكدت التحركات المصرية علي مدار المؤتمر علي أنه لا سبيل لمواجهة الإرهاب إلا باعتماد نهج دولي موحد وأننا جميعا في خندق واحد نواجه نفس التهديد الذي يشكل خطرا علي الإنسانية كلها, وأن مصر بقوتها واستقرارها حريصة علي مد يد العون والشراكة لكل حلفاء الحرب ضد الإرهاب. وفي حين ركزت مصر مشاركتها علي محور مكافحة الإرهاب باعتباره الشغل الشاغل للسياسة المصرية, إلا أنها لم تول اهتماما لقضايا الأمن الإلكتروني والأمن البيئي وأمن الطاقة, وهي قضايا أخذت في جذب اهتمام العالم بشكل كبير وتضمنها التقرير السنوي الصادر عن المؤتمر.