منذ إعلان البدء في إنشاء العاصمة الجديدة( لا البديلة), والآراء تتضارب بين تسويغ ضرورتها أو رفض الفكرة أساسا. بيد أنه من الإنصاف القول أن ما اتجهت إليه مصر ليس بدعا من الطرح فقد سبقها إليه العديد من الدول في تاريخنا المعاصر, نذكر منها البرازيل وروسيا ونيجيريا وتنزانيا وكوت ديفوار. بل إن حضارات العالم القديم عرفت هذه الظاهرة, مثل مصر الفرعونية والآشوريين في العراق والحيثيين في تركيا القديمة. وبالطبع فلقد كان لكل دولة أسبابها في هذا الأمر سواء كانت اقتصادية في ضوء توجهات التجارة العالمية كالبرازيل أو إستراتيجية بحكم تغير مراكز القوي العالمية أو طبيعة الأخطار المحدقة بها مثل ميانمار. وأحيانا ما تكون جغرافية أو جيولوجية ترتبط بالموقع أو بتهديدات الطبيعة مثلما الحال في إيران رغم أنها لم تتخذ قرارها بعد, وربما ترتبط بحدث كروسيا بعد عصر القياصرة أو بشخصية مثل كوت ديفوار حيث ارتباط التغيير بمسقط رأس زعيم الاستقلال. كما أنه ليس بالضرورة ضمان النجاح في تغيير العاصمة حيث لا تزال بعضها تعاني من هيمنة العاصمة القديمة مثل تنزانيا وكوت ديفوار, فضلا عن أن التغيير قد لا يكون لسبب بعينه بل ربما لعدة أسباب. و فيما يتعلق بالعاصمة الجديدة( لا البديلة) في بر المحروسة, فإن أول ما يستلفت النظر وسمها بالعاصمة الإدارية, الأمر الذي يفتح الباب لمزيد من المسميات كالدينية والترفيهية والتجارية إلخ إلخ.. مما يجعلني أرفض مسمي الإدارية لما له من نتائج قد تقلص من الدور المأمول لهذه العاصمة بموقعها الجديد. لا سيما أن الفكرة كانت مطروحة منذ عهد السادات فيما أعلم وحتي الآن, إلا أن إمعان الوزارات والهيئات في تغيير مبانيها لا مواقعها مثل وزارة الخارجية أو أمن الدولة مثلا كان يشي بأن تحقيق ذلك الهدف سيظل ضربا من الخيال. وعندما أعطي الرئيس السيسي إشارة البدء بدأت تتردد أصداء الآراء المعارضة التي تتناول مفهوم الأولويات,و تناسي الجميع حجم الترهل الذي باتت عليه قاهرة المعز. بعدما علت معالم وجهها قسمات الزمن بفعل تخبط رؤي أبنائها تارة أو بحكم الاستمساك بالمركزية المقيتة, فضلا عن الهجرة الداخلية العشوائية أو ارتباط مفاتح الرزق بالعمل بها. وهنا تكمن القضية بعدما أصبح الافتتاح الأولي للعاصمة الجديدة أمرا واقعا حيث النظر بعين الاعتبار إلي عدة مفردات لن تكون قاهرة المعز بمعزل عنها. أولها بالطبع مسألة تحقيق التوازن بين الأهمية الفعلية للقاهرة وبين الأهمية المرجوة للعاصمة الجديدة, بمعني هل توصلنا للدور الذي ستقوم به القاهرة حال نجاح الهدف الأساسي من العاصمة الجديدة وأعني به نقل دولاب العمل الحكومي. وماذا عن المؤسسات الأجنبية كالسفارات والملحقيات وفروع المنظمات الدولية؟؟!, وكذا طبيعة المجتمع الجديد ومستويات المعيشة فيه ومتطلباتها!!. وهل ستكون عبئا علي القاهرة مثلما حدث معها عند التوسع في المدن الجديدة, أم ستخفف الحمل عن القاهرة بوحدات إنتاجية للمتطلبات الحياتية الأساسية. وهل سنجد تشريعا يتعامل مع اقتناء الوحدات السكنية مقابل مثيلاتها في العاصمة الأم حتي لا تتكرر ظاهرة الشقق المغلقة التي تعاني منها الإسكندرية, حيث تفاقم أزمة الإسكان عرضا وسعرا. وهل هناك أمل في أن نجعل من القاهرة مدينة للمتعة السياحية والثقافية بما تملكه من كنوز تراثية ومؤسسات فنية وثقافية. وأخيرا هل بالإمكان جعل العاصمة الجديدة بمثابة مشروع قومي بعيد المدي. إنها آمال عراض حيال مشروع نتمني ألا يكون الحماس له بمعزل عن القاهرة مكانا ومكانة. (إشراقات السعدي139): رغم تعدد نظريات الإدارة, تظل إدارة النفس من مخرجات مدرسة الحياة.