يعتبر ذو النون محبة الله سرا لا يجوز الخوض فيه لئلا يسمعه العوام, وقد تذاكر القوم المحبة في مجلسه فقال: كفوا عن هذه المسألة حتي تسمعها النفس فتدعيها, فهو يقدس المحبة لدرجة يصل تقديسه لها ليسموا بها حتي عن الحديث عنها. وكان ذو النون يهيجه السماع رذا اتصل بحب الله سبحانه, فقد حدثوا أنه لما دخل بغداد اجتمع إليه الصوفية ومعهم قوال منشد, وأنشد فقال: صغير هواك عذبني فكيف به إذا احتكما وأنني جمعت من قلبي هوي قد كان مشتركا أما تراني لمكتئب إذا ضحك الخلي بكي فانتشي ذو النون, ومن شدة نشوته سقط علي وجهه وظل الدم يقطر منه وهو لا يدري. وعن الأنس بالله يقول ذو النون: الأنس بالله من صفاء القلب مع الله, والتفرد بالله, والانقطاع من كل شيء سوي الله. وسئل متي يجد العبد حلاوة الأنس بالله عز وجل؟ قال: إذا قطع العلائق, ورفض الخلائق, وكان من أهل الحقائق, وعمل بالرقائق, فحينئذ ينجو من البوائق. وقال: الأنس بالله نور ساطع, والأنس بالخلق غم واقع.. ووصل ذو النون بالأنس بالله إلي منزلة يقول عنها: أدني منازل الأنس أن يلقي في النار فلا يغيب عن مأموله. وعن الشوق يقول: الشوق أعلي الدرجات والمقامات, إذا بلغه استبطأ الموت شوقا إلي ربه, وحبا للقائه والنظر إليه. وسئل عمن استحق الاشتياق فقال: إذا استحق الاشتياق قرب من باب الخلاق, وشرب من كأس المذاق, فشاق واشتاق. وفي حوار طويل بين ذو النون وعبد الله بن سهل, قال له عبد الله: متي أتوكل؟.. قال: اليقين إذا تم سمي توكلا.. قلت: متي يتم حبي لربي؟.. قال: إذا سمجت الدنيا في عينيك, وقذفت أملك فيها بين يديك. قلت: فمتي أخاف ربي؟!.. قال: إذا سرحت بصرك في عظمته, ومثلت لنفسك أمثال نقمته.. قلت: فمتي يتم صومي؟ قال: إذا جوعت نفسك من البغضاء, وأمت لسانك من الفحشاء.. قلت: فمتي أعرف ربي؟.. قال: إذا كان ما أسخطه عندك أمر من الصبر.. قلت: فمتي أشتاق إلي ربي؟!.. قال: إذا جعلت الآخرة لك قرارا, ولم تسم الدنيا لك مسكنا ودارا. قلت: فمتي أشتد في بغض الدنيا؟ قال: إذا جعلت الدنيا طريق مخافة. لا تلتفت إلي ما قطعت منها, وجعلت الآخرة ساحة مأمونة, لا تأمن إلا بالنزول فيها. قلت: فمتي أحب لقاء ربي؟.. قال: إذا كنت تقدم علي حبيب, وتصبر عن أمر قريب. قلت: فمتي أستلذ الموت؟.. قال: إذا جعلت الدنيا خلف ظهرك, وجعلت الآخرة نصب عينيك. قلت: فمتي أتقي شهوات مطاعم الأرض؟ قال: إذا خالط قلبك الملكوت, وفرج سرائر الجبروت. قلت: فمتي تطيب معرفتي؟.. قال: إذا استوحشت من الدنيا واشتد فرحك بنزول البلاء. قلت: فمتي أستقبح الدنيا؟.. قال: إذا علمت أن زينتها فساد كل معني, وأن محاسنها تفضي إلي حسرة. قلت: فمتي أكتفي بأهون الأغذية؟.. قال: إذا عرفت هلاك الشهوات, وسرعة انقطاع عذوبة اللذات. قلت: فمتي القنوع العام؟.. قال: إذا كان زخرف الدنيا عندك صغيرا, وكان خوف الآخرة لك ذكرا. قلت: فمتي آمر بالمعروف؟.. قال: إذا كانت شفقتك علي غيرك, وخالفت العباد لمحبة ربك. قلت: فمتي أؤثر الله ولا أؤثر عليه سواه؟.. قال: إذا أبغضت فيه الحبيب, وجانبت فيه القريب. قلت: فمتي أفزع إلي شكره, وآنس بشكره؟.. قال: إذا سررت ببلائه, وفرحت بنزول قضائه. ويقول ذو النون عن الخلوة: لم أر شيئا أبعث لطلب الإخلاص من الوحدة, لأنه إذا خلا لم ير غير الله, فإذا لم ير غيره لم يحركه إلا حكم الله, ومن أحب الخلوة فقد تعلق بعمود الإخلاص, واستمسك بركن كبير من أركان الصدق, ومن تزين بعمله فحسناته سيئات. قيل لذي النون: كم الأبواب إلي الفطنة؟ قال: أربعة أبواب: أولها: الخوف, ثم الرجاء, ثم المحبة, ثم الشوق.. ولها أربعة مفاتيح: فالفرض مفتاح باب الخوف, والنافلة مفتاح باب الرجاء, وحب العبادة مفتاح باب المحبة, وذكر الله الدائم بالقلب واللسان مفتاح باب الشوق, وهي درجة الولاية.