بقيت شجرة التصوف المصري التي غرسها ذو النون, وتعهدها تابعوه بالعناية سقاية وتهذيبا حتي نمت وأزهرت وأينعت وأثمرت ظاهرة ثقافية فريدة, وأضحي للتصوف المصري ملامح خاصة تميزه عن غيره من أشكال التصوف الإسلامي, وأهم هذه الملامح بعده عن المغالاة, وكان نهجهم مغايرا لكل فلاسفة التصوف, منهجا عمليا أخلاقيا يقوم علي جمع المريدين والتلاميذ ورعايتهم تربويا ودينيا في فرق اتخذت مع الأيام مسمي الطرق الصوفية التي تأتفي من التطرف وتميل إلي البساطة والسهولة والاعتدال والوسطية روح الاسلام الخالص ولهذا ازدهرت وانتشرت المذاهب السنية فقها ومنهجا. في حين فشلت كل التيارات المتطرفة من خوارج وشيعة وغيرها, وحتي في ظروف احتلال الفاطمية لمصر ومحاولتهم, نشر المذهب الاسماعيلي الفاطمي, نجد مصر تقف موقفا سلبيا من تلك الدعوات, ولم تتأثر به, بالرغم من الجهد الفائق الذي حرص الفاطميون علي بذله لنشر مذهبهم, من فتح المدارس الشيعية, وإنشاء المكتبات الضخمة وتشييد المساجد الضخمة, وهكذا بقيت دعوتهم هشة ضعيفة, ومع أول أنتفاضة للشعب اندثر بناؤهم وانهار عليهم وذهب إلي غير رجعة. ومصر عرفت التصوف قبل ظهور الطرق الصوفية بأربعة قرون ومن مصر خرج أول داعية لتصوف واضع أسس التصوف في العالم الاسلامي, فكان أساس نشر النزعة الروحية للاسلام في العالم كله, ومن بعده انتشرت في كل العالم, بل تأثرت بها الديانات المختلفة, وكانت وسيلة ناجحة لنشر الاسلام, في شرق آسيا ووسط أفريقيا, ولعبت الطرق الصوفية الدور الأعظم في المد الاسلامي, من خلال الخانقاوات فتم من خلال تفسير اشارات الصوفية, وكان المصريون هم أول من تكلم في الأحوال والمقامات...! وأفرزت التجربة شيوخا حفظت كتب التاريخ أسماءهم: أبو بكر الدقاق وأبو الحسن بن بنان الحمال وأبو علي الروزباري وأبو الخير التيتاني, وأبو علي بن الكاتب وأبو الحسن الديتوري الصائغ وأبو بكر الرملي وابن الترجمان وأبو القاسم الصامت. ويشير الاستاذ جمال بدوي إلي ان هؤلاء الرواد لم تكن لهم الشعبية ولا الجماهيرية لكون منهجهم يتسم بالفردية, حيث حرص كل واحد منهم علي النجاة بنفسه من فتنة الحياة الدنيا, ولم يهتم بكسب الأتباع والأشياع. ويعلل انتشار الطرق الصوفية منذ القرن السادس الهجري فيعود لحدثين من أهم الأحداث التي تعرض لها العالم الاسلامي وهما سقوط الأندلس, واندلاع الحروب الصليبية. ففي الوقت الذي انهار فيه الحكم الاسلامي في الأندلس, وكانت أولي الحملات الصليبية تحط رجالها علي الساحل السوري مفتتحة ملحمة الصراع الحربي التي دامت قرنين. وكما يحدث في أعقاب الكوارث, والنكسات.. وتساءل المسلمون عن سر هزيمتهم واندحارهم, ورأي البعض أن السر يكمن في بعدهم عن الله والإقبال علي المعاصي, ورأوا أن الخلاص في الرجوع إلي الطريق الصحيح, وكان هذا التفكير يتفق تماما مع النزعة الصوفية التي يجعل من الطاعة والمعصية محورا للنجاح والفشل, ولأن المغرب كان قريبا من بلاد الاندلس فكان أكثر إحساسا بالخطر, وبالتالي أكثر حماسة ورغبة في العودة إلي الله. فقامت دولة المرابطين أي المجاهدين التي تحملت عبء المواجهة بعد سقوط الأندلس. فكان المرابطون ينتظمون في فرق تجمع بين الجهاد والتصوف, ولكن بمرور الزمن فقدت طبيعتها الحربية وبقيت لها طبيعتها الروحية ممثلة في الطرق الصوفية, ومع اشتداد تيار الهجرة إلي مصر وفد إليها جماعة من هؤلاء الاعلام في طليعتهم عبدالرحيم القنائي.. أبو الحسن الشاذلبي.. أبو العباس المرسي. أحمد البدوي الذين انتشروا في مدن مصر تاركين العاصمة لاهل بيت النبي حيث يستطيعون أن يجدوا لأنفسهم ولزعامتهم الدينية مكانة في قلوب أبناء الأقاليم المصرية.