إن عالمنا المعاصر الذي يتواصل من أقصاه إلي أقصاه عبر الإنترنت يحتم علينا إعادة النظر في التسميات التي نطلقها علي إحدي المناطق علي أنها مركز الشركات الناشئة, فالمشاريع الجديدة تبدأ من أي مكان: من قبو في أحد المنازل, من مكتب أحد الجامعيين, من مزرعة نائية... فلماذا نصر علي تسمية مكان أو منطقة ما بأنها مركز الشركات الناشئة؟ يبدو أن هناك سببا جوهريا للجوء إلي هذه التسمية, فعلي الرغم من انجذابنا إلي العالم الافتراضي الذي يفرضه علينا عصر التقنيات الجديدة, إلا أن طبيعتنا كبشر تدفعنا باستمرار إلي البحث عن مكان مشترك للتلاقي مع الآخرين والتعاون والابتكار معا ضمن بيئة عصرية تحاكي أحلامنا. لنشأة وادي السيليكون سبب وجيه, وجوهر هذا السبب هو الناس. ولكن ثمة أسباب أخري أيضا نستعرضها هنا لعلها تكون ذات فائدة لرواد الأعمال في منطقة الشرق الأوسط. وادي السيليكون, نحن الأوائل يستحق وادي السيليكون أن يحمل اسم أول مركز أو منطقة أو نواة لدعم المشروعات الناشئة. أما لندنونيويورك وميونخ أو برلين, فهي تأتي في المركز الثاني لأنها ليست جزءا أساسيا من مقاطعة سان خوسيه- وماونتن فيو- وبالو ألتو في كاليفورنيا, أو ما يشكل وادي السيليكون. للسبب نفسه تندرج كل من المدن الصينية كبكين وشانغهاي وشنجن في المرتبة الثانية, والقائمة تطول. ومن أجل فهم ترتيب منطقة الشرق الأوسط والمناطق التجارية الرئيسية فيها قياسا لهذا الواقع, نحتاج إلي فهم مركز الشركات الناشئة ذات الدرجة الثالثة, وتقييم الفرص التي تقدمها تلك المشاريع لاقتصاد المنطقة في المستقبل. نحو فهم المشاريع الثالثة من الدرجة الثالثة في كثير من الأحيان, لا يكون مقر الشركات الناشئة من الدرجة الثالثة في مركز العاصمة فهو لا يضم بالضرورة جامعة ولا يتمتع بشبكة نقل مثل مراكز الدرجة الثانية التي تستطيع أن تدفع عجلة نموها. ونذكر علي سبيل المثال ما أشار إليه فريد ويلسون, الشريك المؤسس لشركة يونيون سكوير فنتشرز ومقرها نيويورك, حين اعتبر سياتل مركزا لدعم الشركات الناشئة من الدرجة الثالثة. ووفقا لمقالة ويلسون علي إحدي المدونات فإن المركز الثالث هو مكانة متواضعة لرواد الأعمال والمستثمرين; ولكن الأمر لا يخلو من بعض التحديات وأهمها أن رواد الأعمال المنتمين لهذه الفئة قد يتمكنون من الحصول علي المهارات ورأس المال اللازم لتحقيق النجاح, ولكن قد يصعب عليهم الحصول علي كليهما في وقت واحد. أما في المركزين الأول والثاني فهناك نوع من الفوقية في التعامل مع هذه المسألة وهذا أمر كنت ولا أزال اعتبره مزعجا للغاية. الشرق الأوسط كمنطقة داعمة للشركات الناشئة ماذا يمثل الشرق الأوسط بالنسبة للشركات الناشئة؟ أنها منطقة تجمع عواصم عصرية وجامعات عالمية شهيرة وتضم وسائل نقل متميزة وتاريخا حافلا بالاكتشافات العلمية, وتراثا غنيا في عالم التجارة. بالإضافة إلي ذلك, فإن عددا من دول الشرق الأوسط تتمتع باستقرار اقتصادي وعملات مستقرة كما تقل فيها الكوارث الطبيعية. وفي ظل هذه الموارد الطبيعية والاقتصادية, هل يمكن لمراكز كبري في العالم العربي أن تحمل مستقبلا لقب مركز الشركات الناشئة من الدرجة الثانية؟ حتي الآن, لا يزال الاقتصاد في الشرق الأوسط يعتمد إلي حد كبير علي الشركات الكبري( المحلية والدولية) وهذا الواقع هو جزء كبير من المشكلة, لأن تلك الشركات تملك حصريا حقوق التوزيع فيما قلة من أصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسطة تحاول إحداث تغيير وتحدي الواقع القائم. لكن الأمور بدأت تتغير بعدما سادت هذه الظاهرة قطاع التجارة تحديدا خلال منتصف القرن الماضي. اليوم, بدأت المخاوف من التغيير تنحسر فيما يتنامي الوعي علي مستوي المنطقة بأن التغيير قد يحمل انعكاسات إيجابية علي القطاع التجاري. إن منطقة الشرق الأوسط قادرة علي تجاوز التحديات في مجال الشركات الناشئة إذا تم اعتماد استراتيجية ذكية لتأسيس الأعمال. إذا أخذنا علي سبيل المثال مزارعي العنب في كاليفورنيا والذين ازدهرت أعمالهم في السنوات الأخيرة, سنجد أن سبب هذا الازدهار لم يكن في تحسن الأحوال الجوية أو في تنامي خصوبة التربة بل هو يكمن في السياسات المعتمدة لتهيئة المناخ الملائم لهذا الازدهار بدءا من توفير المستثمرين وتطوير خدمات التوزيع والدعم القانوني, والتكنولوجيا, والقوانين, والسياسات. ومع تجدد اهتمام الحكومات في المنطقة بكسر الاحتكارات الكبري والتركيز علي الخصخصة, والتنوع الاقتصادي, وتعزيز الفرص, لا شك في أن إرساء منظومة متكاملة لدعم الشركات الصغيرة سوف يحتاج إلي الكثير من المرونة. الرعاية الاقتصادية إذا أرادت منطقة الشرق الأوسط أن تتبوأ الريادة في مجال دعم الشركات الناشئة, فهي تحتاج إلي الاستعداد لما يسمي الرعاية الاقتصادية. من المعلوم أن الفشل يتربص بالعديد من الشركات الناشئة في الأشهر الثمانية عشرة الأولي من تأسيسها. وقد تمنح هذه الرعاية دفعة من الدعم والقوة للشركات الناشئة لكي تستمر وتحقق النجاح, ولا عجب في أن يشار إلي هذا النوع من الرعاية ببرامج الحاضنات الاقتصادية. ولكن المسألة ليست مرتبطة فقط بالشركات العربية الناشئة, بل تشمل تلك العاملة في القطاعات القائمة أصلا. وهنا نسأل: ألم يحن الوقت لنتبني التغيير داخل الأبراج العاجية التي كرستها الشركات الكبري العاملة في الخليج؟ لقد بدأت بعض الشركات في تطوير إدارات داخلية لابتكار منتجات وخدمات جديدة, في محاولة منها لتحقيق السبق في الريادة. يمكن لهذه الإدارات الداخلية أن تدار بشكل مستقل وأن يكون لها طاقم خاص من الموظفين فتتحمل بالتالي مسئولياتها من ناحية الربح والخسارة. وفيما يشير عمرو شادي, رئيس مجلس إدارة شركة تي إيه تليكوم ومقرها القاهرة, إلي أن التمويل قد يكون من الصعوبات الكبيرة التي تواجه ريادة الأعمال في الشرق الأوسط, إلا أنه يؤكد أناستراتيجيتنا في تي إيه للاتصالات, وهي شركة ناشئة تأسست عام2000, هي إنشاء شركة ناشئة داخل شركة ناشئة, حيث نقوم بتوظيف رواد الأعمال ونشجعهم علي الانضمام إلينا وإدارة إطلاق المنتجات الجديدة. وفي حال تحقق النجاح المنشود لهذه المنتجات أو المشاريع التي تم إطلاقها فإنها تصبح تحت إدارتهم بشكل كامل. ويقول شادي إنه يمكن دعم منظومة ريادة الأعمال في مناطق الدرجة الثالثة( وهي المرتبة التي تشغلها القاهرة) من خلال الشركات التي توظف رواد الأعمال, أو علي أقل تقدير, خفض معدلات تجنب المخاطر والتحول إلي عملاء للشركات الناشئة. وهذا بالضبط ما حدث لشركة تي إيه تليكوم في العام2001 عندما أصبحت فودافون أول عميل كبير لها. مناخ عربي مهيأ لريادة الأعمال يمتلك أبي سام توماس, رئيس تحرير مجلة إنتربرينير الشرق الأوسط, رؤية أعمق للتحديات في قطاع الشركات الناشئة. فهو يؤكد أن التطورات التي شهدتها المنطقة في السنوات القليلة الماضية خير دليل علي النجاحات الكبيرة التي تحققت لبناء منظومة قوية لريادة الأعمال في الشرق الأوسط. ويقول توماس, يتنامي الاهتمام بتشجيع ريادة الأعمال سواء في دبي, أو بيروت, أو مسقط, أو عمان, نظرا لقدرة هذه الشركات الجديدة علي المساهمة في مسيرة التنوع الاقتصادي في منطقة الشرق الأوسط. لكن هذه الحقيقة لا تلغي وجود بعض التحديات. فالتمويل, علي سبيل المثال, لا يزال مصدر قلق بالغ للشركات الناشئة- إلا أن العديد من الجهات المعنية تتعامل مع هذا الأمر بجدية لمساعدة الشركات علي تخطي هذه العقبات. ويضيف توماس: إننا نشهد المزيد من برامج مسرعات وحاضنات الأعمال في هذه المنطقة, فالحكومات تضع ريادة الأعمال والابتكار علي رأس قائمة أولوياتها, كما أن المؤسسات التعليمية تعمد إلي تغيير مناهجها لتشجع علي التفكير المستقل واكتساب مهارات ريادة الأعمال. من جهتها تلجأ الشركات إلي الارتقاء بمزاياها إلي مستويات أفضل من خلال تشجيع التفكير الإبداعي لدي موظفيها, أو من خلال دعم الشركات الناشئة التي تمتلك منتجات أو تقنيات يمكنها أن تساعد علي نمو أعمالها وتحقيق نجاح مستدام. ويري توماس أن هناك إجماعا علي أن إطلاق مشروع تجاري في هذه المنطقة لا يزال مكلفا, من هنا يعتبر أي إصلاح في هذا القطاع بمثابة هبة من السماء بالنسبة لرواد الأعمال في منطقة الشرق الأوسط. باختصار, إن الشرق الأوسط يضم مجموعة من المناطق الصالحة لرعاية ودعم الشركات الناشئة من الدرجة الثانية( أبوظبي, وعمان, والقاهرة, ودبي, والدوحة) ومجموعة كاملة من المناطق من الدرجة الثالثة التي تستعد للتنافس للوصول إلي الدرجة الثانية. وبغض النظر عن المرتبة, المهم أن مسيرة نمو هذا القطاع قد بدأت. النيات والإرادات والمهارات متوفرة, ولا ينقصها إلا مزيد من الجهود لتعزيز هذه المنظومة الحيوية للاقتصاد والمجتمع ليصبح الشرق الأوسط ملاذا مثاليا للشركات الناشئة. متخصص في شئون تطوير البرمجيات وإدارة المشاريع والتكنولوجيا