إحساس خانق يجتاحني كلما تذكرت أني كنت سببا رئيسيا في موت أخي الوحيد. أجل أنا من قتل أخاه و أزهق روحه ليس بطعنة سكين أو طلقة غادرة و لكنني قتلته حبا وخوفا.. قد تستغرب كلامي ولكنها الحقيقة المجردة فأنا كنت أحب أخي هذا إلي حد الجنون فلم يكن لي غيره و أمي في هذه الدنيا. ولأني الأخ الأكبر كنت له الأب والأخ و قمت علي تربيته حتي تخرج في كلية الهندسة ولم يكن يشغلني أن تأخذني الدنيا من طموحي كأي شاب وأحترق في آتون العمل منذ نعومة أظفاري. كان همي الأول أن لا تحتاج أمي لأحد و كبرت وكبرت همومي أنا الجاهل الذي يجيد القراءة والكتابة بالكاد.. يدي خشنة مشققة غليظة من أثر الرمل والأسمنت في عملي بالمعمار ولم أكن أستشعر نقصا يوما ما حتي رأيت ذلك في عين أخي الذي ما إن حصل علي شهادته الجامعية حتي قرر أن ينفصل عني وأمه متمردا علي حياته معنا منسلخا من بيئته لحياة فصلها لنفسه بعيدا عنا. كانت هذه إرادته و لم أعارضه تركته لنفسه و رأيت أن رسالتي معه قد انتهت و قلت في نفسي أنتبه لحالي و بالفعل تزوجت وعاشت معي أمي و رزقت بثلاثة أبناء كانوا العوض لي عن أشقائي و شرعت في تعليمهم وكم تمنيت أن أري فيهم نفسي التي كنت أحلم بها و ليست الضائعة في ثنايا الحياة و دروبها. وكان ربي كريما رؤوفا بحالي فقد كانوا ثلاثتهم متفوقين في دراستهم وتسير الحياة بهم علي وتيرتها الحسنة. لم يكن ينغص حياتي شيء غير غياب أخي الذي علمت أنه غادر البلاد ومضي به زمن طويل في الغربة حتي أن أمه ماتت وعرفت أنه علم بموتها من معارف له من نفس بلدتنا يعملون معه ولكنه لم يكحل عينيها برؤيته قبل أن ترحل عن الدنيا. خمس و عشرون عاما مضت علي افتراقنا قرت عيني خلالها بأولادي وزوجت أكبرهم بعد تخرجه في البيت نفسه وقارب شقيقاه علي استكمال تعليمهما.. وفوجئت يوما بشقيقي الغائب يطرق بابي.. فرحت به كشمس أشرقت بعد طول ليل مره السهاد.. أقبلت عليه.. احتضنته.. قدمت له أولادي يسعد بهم.. ملأتني الفرحة به حتي ثملت بها. وفي ذروة سكرتي ونشوة اللقيا صدمني جموده كصخر خلت منه الأحاسيس منذ زمن. ما أتاني اليوم زائرا نادما علي طول غيابه وعقوقه لي أنا من قام علي تر بيته.. أتي يبحث عن إرثه من أمه و أبيه في البيت الذي يسترني وأولادي. قلت له هذا حقك و لكنك عدت من الخارج ميسورا وأنا لا أملك ما أشتري به سكنا آخر حتي نصيبي في الإرث لن يكفي ذلك.. واشتعل الخلاف بيننا وتعاركنا حتي أنني طردته من بيتي وقلت له أن لا يريني وجهه ثانية. كنت غاضبا منه و لم أطمع في حقه قلت في نفسي لابد أن أتصرف و أعطيه إرثه و لم يدر بخلدي أنه خرج معميا في ثورة غضبه فعبر الطريق مسرعا فصدمته سيارة مندفعة ليلقي حتفه علي الفور. إحساس خانق يتملكني كأنه الموت يحاصرني لعلي ألحق بأخي أستعطفه في أن يسامحني.. ولكن الموت يخاصمني ويترك للحياة الفرصة في أن تزهق روحي ألف مرة بلا موت. أنا يا سيدي لم أطمع في حق أخي الوحيد و لكن صدمتني عودته بعد فراق بحثا عن المال فقط.. كنت أحلم باللحظة التي يرتمي فيها في حضني أنا أبوه ولم أكن أدري أني سوف آخذه في حضني غارقا في دمائه. أنا الآن أعيش حبيس غرفتي أستعذب النهاية جلدا وندما وحسرة حتي تأتي أصب علي قلبي القاسي قطر العذاب المر من هول ما فعلت في أخي. إن لم يرحمني ربي من العذاب الذي أعيش فيه أكون عبدا ضائعا إلي الأبد. ن- م- القاهرة يا أخي إن الله سبحانه و تعالي لا يكلف الإنسان إلا ما في وسعه ولا يقدر عليه ما لا يطيق ولك أن تعي أن ما أنت فيه محنة وإن كانت عصيبة إلا أنها مقياس لمدي قدرتك علي الصبر ومدي تعمق الإيمان في قلبك. لابد في البداية أن تحسم أمر موت أخيك مع نفسك بأنه القدر الذي يترقب كل منا في موعد محدد لا يعلمه غير الله عز وجل وقدر أخيك بالتأكيد لا يد لك فيه فما مات لطردك إياه ولا لمنعك حقه في إرثه وإنما مات بقدره المحتوم. وعلي قدر إيمانك بالله وقدره تكون قناعتك بهذا الأمر و دعني أقل إن سوء الظن ليس من الفطنة في شيء فأنت تسيء الظن بنفسك إلي أقصي مدي وتحملها ما لم تفعل أو تطيق دون وجه حق و صدق الله تعالي عندما قال في محكم آياته: يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم. وفيما يخص حق أخيك لم تذكر لي في رسالتك إن كان له ولد أم لا فإن كان له ولد فأعطه له وإن لم يكن له فأخرج علي روحه من حقه لأعمال الخير قد يخفف ذلك من آثامه و يعلي من حسناته. ترفق بنفسك يا أخي فما فعلته من بر أخيك و رعايتك له أكبر بكثير من لحظة غضب عابرة تصادفت مع قدر أخيك وموته واستغفر الله لذنبك إن الله غفور رحيم.