مازالت قضية التغيير في العالم العربي تفرض نفسها بشدة بعد' الثورة' التي جرت في تونس, وكأن العرب لم يعرفوا دوما ثورة, ولا تغيير, ولا حتي ثورة تصحيحية, وانقلابات, وانقلابات مضادة عرفت الدول العربية والقصص الدموية, والقصص السلمية وما كان فيها علي اليسار, وما جري فيها علي اليمين, وما كان فيها انفصاليا, وما كان فيها وحدويا, وما كان فيها مصحوبا بالحرب الأهلية, وما كان فيها من وفاق وطني. الخبرة العربية بالتغييرات الكبري كبيرة, ويفترض فيها أن تعطي ما يكفي من الرءوس الباردة التي تستطيع التفكير بهدوء مع حادث جديد. ولكن الحادث الجديد في تونس أصاب عديدين بالنشوة قبل الفكرة, والاعتقاد بفجر عظيم قادم, وكأنه لم يأت نور ولا ظهرت شمس من قبل, وبات كلهم علي اعتقاد أن الفضائيات التلفزيونية سوف تشكل عصر العروبة القادم. وفي مصر تتمثل المشكلة لدي قطاع لا يستهان به من المعارضين الحزبيين والنشطاء ا لسياسيين والنقابيين المهنيين والأكاديميين الأيديولوجيين في التعامل مع الوصول إلي مسألة التغيير كهدف في حد ذاته دونما إيلاء أهمية تذكر لمرحلة ما بعد التغيير, التي تحصد الثمار من وراء التغيير, سواء كانت ورودا أو أشواكا أو مزيجا منهما. ففي الكثير من الأحيان يكون للتغيير توابع, علي نحو ما هو سائد بالنسبة للكوارث الطبيعية مثل الزلازل والبراكين, بل إنه قد يحدث انقطاع عن الهدف المبتغي من التغيير بحكم أن الظروف لم تعد مستقرة لإحداث هذا أو ذاك. يثير ذلك الحديث التطرق إلي موضوع التغيير الاجتماعي في أي بلد, الذي ينقسم بدوره إلي التغيير المفاجئ الذي ينتج عن ثورة شعبية أو انقلاب عسكري ويهدف إلي تحقيق نتائج سريعة ويؤثر علي الأوضاع المستقرة والقواعد المؤثرة ويتمخض عنه ارتدادات سريعة أيضا. أما التغير التدريجي التطوري فهو ما ينسجم مع طبيعة الأشياء وينتج عنه خطط محددة وسياسات مدروسة ويكون الصراع من خلاله أقل وطأة من الصراع الناتج عن التغيير المباغت. وهذا النوع من التغيير يكون' مرحليا', أي يتكون من تراكمات جزئية يمكن البناء عليها بمرور الوقت, بما يعكس قابلية المجتمع للتغيير. وكلاهما أي التغيير الفجائي والتطوري- يتفقا في نقطة محددة وهي أن الدافع وراء التغيير هو أن النظام القائم لا يعبر عن إرادة الأفراد المكونين للمجتمع, فطالما أن هناك فجوة بين ما هو قائم وبين ما ينبغي أن يكون يحدث التغيير, ويختلف النمطان عن نمط المحافظة التي تعني في أبسط معانيها الجمود والسكون ومقاومة التجديد ومعاندة التغيير رغم أن الثبات في الحياة البشرية هو التغيير بحكم أن الحياة هي حركة دائمة. ومع حدوث تغيير في قمة هرم السلطة في تونس, برز تيار في مصر يري أن النموذج التونسي قابل للتطبيق, وكأن النظم السياسية صارت فجأة' سلعة' قابلة للتصدير والاستيراد دونما أهمية للواقع الجغرافي والتكوين الديموغرافي والميراث التاريخي والنسيج المجتمعي والوضع الاقتصادي والبنيان السياسي والمناخ الإعلامي وغيرها. وطبقا لهذا التيار, فإن السيناريو التونسي قد يحدث بنفس الخطوات في مصر, إلا أن التوقيت بيد الله. إن واحدا من النماذج بالغة الدلالة علي التغير المفاجئ هو النموذج التونسي, حيث تغيرت الصورة النمطية عن تونس كبلد مسالم هادئ خلال الأسابيع الماضية, حيث برزت أعمال السلب والنهب في عدد من المدن والأحياء نفذها ملثمون مسلحون بالهراوات والسيوف, وفي بعض الأحيان يقودون سيارات بسرعة كبيرة ويطلقون الرصاص بشكل عشوائي لإحداث خسائر مادية وبشرية. وتعددت التكهنات بشأن انتماءاتهم وهويتهم, فهناك من يعتبرهم ضمن عناصر ميلشيات حزب التجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم التي ترتبط بعلاقة بمقربين من بن علي ويهدفون إلي زعزعة استقرار البلاد وبث الرعب في المجتمع, وهناك من يعدهم من الفارين من السجون وهناك من يضمهم إلي صفوف قوات الشرطة. كما تم اقتحام المتاجر والمحلات والمقاهي ونهب الأسواق الحرة وحرق بعض المصارف مثل فرع مصرف الزيتونة الإسلامي فضلا عن سرقة السيارات وإشعال النيران في محطات القطارات المركزية في العاصمة وتدمير المنشآت السياحية, وبلغ عدد القتلي حوالي80 فرد وكثر عدد الجرحي. ومن هذا المنطلق, دعت حركات تونسية إلي تشكيل لجان شعبية للدفاع المدني بعد حالة الانفلات الأمني واختفاء قوات الشرطة ووجهت نداءات استغاثة للجيش للتدخل وفرض حالة الطوارئ في البلاد. وكان محمد الغنوشي قد أعلن في15 يناير الحالي أنه سيقوم بأعمال رئيس الدولة بعد تفويض الرئيس بن علي له قبل خروجه من البلاد وفقا لنص المادة'56' من الدستور التونسي, والتي تنص علي' لرئيس الجمهورية إذا تعذر عليه القيام بمهامه بصفة وقتية أن يفوض بأمر سلطاته إلي الوزير الأول ما عدا حق حل مجلس النواب'.' وأثناء مدة هذا التعذر الوقتي الحاصل لرئيس الجمهورية تبقي الحكومة قائمة إلي أن يزول هذا التعذر, ولو تعرضت إلي لائحة لوم. ويعلم رئيس الجمهورية رئيس مجلس النواب بتفويضه المؤقت لسلطاته'. لكن بعض القانونيين والمعارضين التونسيين طعنوا في شرعية تولي الوزير الأول( رئيس الوزراء) محمد الغنوشي الرئاسة المؤقتة, متهمين إياه بخرق الدستور, ومحاولة الالتفاف عليمكاسب الانتفاضة الشعبية التي أجبرت الرئيس بن علي علي الفرار, بينما لوحت أطراف نقابية بعصيان مدني. فالوضع- الذي بدا فيه الجيش مسيطرا علي السلطة في غياب بن علي, مما يعني أن هرم السلطة قد تغير- من وجهة نظر دستورية أخري محكوما بالفصل57 من الدستور, الذي يقول إنه' عند شغور منصب رئيس الجمهورية لوفاة أو لاستقالة أو لعجز تام, يتولي فورا رئيس مجلس النواب مهام رئاسة الدولة بصفة مؤقتة لأجل أدناه45 يوما وأقصاه ستون يوما'. وفي اليوم التالي مباشرة, حدث انتقالا دستوريا ثانيا لوضع السلطة المؤقتة في يد رئيس البرلمان فؤاد المبزع, وتم التعهد بانتخابات حرة, والترحيب بعودة المعارضين المهجرين. وحتي الآن, لازالت الاحتجاجات الشعبية تطالب بحكومة إنقاذ وطني مقطوعة الصلة برموز الحزب الحاكم, حيث وردت في المظاهرات هتافات تنادي بإسقاط وزراء الحكومة في عهد الرئيس بن علي ومنها لا سلام ولا استسلام حتي يسقط النظام و'الغنوشي علي برة وتونس تونس حرة حرة والتجمع علي بره', فضلا عن المطالبة بحل الحزب الحاكم وإلغاء وجوده واجتثاثه. وقد استقال الرئيس وكل الوزراء من حزب الرئيس بن علي واحتفظوا بمناصبهم في الحكومة الوطنية. وبعد ساعات قليلة من إعلان محمد الغنوشي عن تشكيلتها تعرضت حكومة الوحدة الوطنية إلي هزات متتالية حيث أعلن الاتحاد العام التونسي للشغل( المركزية النقابية) وحزب معارض عن انسحابهما منها, وهو ما يعكس ارتباكا واضحا, ويزيد من التشكيك في شرعية الحكومة. وهكذا فإن النموذج العراقي في التغيير المفاجئ والسريع بدا حاضرا في هذا السياق, حيث شهد العراق حالة فوضي شاملة في المرحلة التي أعقبت الغزو الأمريكي له في20 مارس2003, وهو ما عبرت عنه مجموعة الأزمات الدولية في تقرير لها صدر في11 يونيو من العام المذكور بتعبير بليغ وهو' أرض الفوضي والألم'. فعلي المستوي الأمني, تصاعدت عمليات السلب والنهب وخاصة تلك التي قام بها المسرحين من السجون الذين تم الإفراج عنهم من قبل نظام صدام حسين قبل الغزو وأثنائه, وطالت هذه العمليات التراث الثقافي والحضاري للعراق. وتواصلت عمليات الانتقام الجارية بين العشائر والطوائف, كما ازدادت معدلات العنف والجريمة نظرا لغياب الردع القانوني الذي يمكن من خلاله المحاسبة. وقد أسهمت السياسات الخاطئة التي اتبعتها سلطة الاحتلال بقيادة الولاياتالمتحدة, من خلال اتخاذ قرارات' حل' هياكل الدولة ومؤسساتها مثل وزارات الدفاع والخارجية والداخلية والإعلام وجهاز الاستخبارات وتسريح الموظفين والعاملين بها, إلي تعقد الوضع الأمني الداخلي وزيادة موجات العنف والعنف المضاد. وعلي المستوي السياسي, تواصلت الفوضي في البنية الحزبية التي تجاوزت أعدادها سبعين حزبا اختلفت في توجهاتها السياسية وأطروحاتها الفكرية, وقامت في أغلبها علي أسس طائفية وعرقية, لا تزال الساحة العراقية تعاني من تبعاتها حتي الآن. كما عملت سلطات الاحتلال علي تهميش طوائف في مقابل تصعيد طوائف أخري, بما أدي إلي تأجيج الصراع الداخلي, والذي قد يهدد بالانزلاق إلي حرب أهلية تهدد بتفكيك وانحلال الدولة العراقية, وما يرتبط بذلك من تداعيات علي المحيط العربي المجاور. التجربة في العراق قريبة, وهناك احتمال لأن ينظر إليها التونسيون خاصة أن الجيش لا يزال هو قوة العنف الرئيسية ولا يزال محافظا علي تماسكه. وفي غياب احتلال أمريكي فإن النخبة السياسية التونسية هي وحدها التي تتحمل المسئولية التاريخية, وربما تكون لديها الحكمة هذه المرة لكي تحافظ علي الدولة وتحدث التغيير في نفس الوقت. [email protected]