أمران كنت متأكدا من حدوثهما: أن المفاعل النووي الأول سوف يكون مكانه في الضبعة علي الساحل الشمالي; وأن القوات الأمريكية سوف تنسحب من العراق آن عاجلا أو آجلا وقد أعلن الرئيس مبارك بطريقة جازمة أن المفاعل النووي الأول سوف يكون مكانه الضبعة, وكان الانسحاب لكل القوات المقاتلة الأمريكية قد حدث هو أيضا خلال الأيام القليلة الماضية, أما ما تبقي من قوات فسوف ينسحب هو الآخر بعد فترة قصيرة. وكم أتمني أن أقول لكثير من الأصدقاء وغير الأصدقاء من الكتاب والمفكرين ألم أقل لكم, وأنكم كنتم علي خطأ كبير في كلا الأمرين, حينما نادت جماعة منكم أن مصر قد تم الاستيلاء عليها من قبل رجال الأعمال, وأن هؤلاء صمموا علي الوقوف ضد البرنامج النووي المصري عن طريق الاستيلاء علي الساحل الشمالي بعد تحويله إلي مشروعات سياحية. كما كنتم علي خطأ عندما صممتم علي أن الولاياتالمتحدة لن تخرج من العراق أبدا حتي يخرج منها آخر برميل من البترول, وحتي تبتز آخر برميل في منطقة الخليج كلها, وبالتأكيد حتي يسقط النظام الإيراني بعد أن سقط النظام العراقي مع الغزو الأمريكي. وكان التأكد الأول من جانبي راجعا إلي أنني زرت بالفعل مقر المفاعل النووي المصري في الضبعة, ولم يكن مكانا شاغرا, ولكن كانت به بنية أساسية كاملة تم بناؤها بيد مصرية بقيادة الدكتور علي الصعيدي الذي كان رئيسا لهيئة المحطات النووية المصرية, وبعد ذلك عمل في الوكالة الدولية للطاقة النووية, ومن بعدها وزيرا للكهرباء ثم الصناعة في مصر. وقصة الزيارة في ذلك الوقت من عام1986 كانت نوعا من البحث عن عون في الجدل الداخلي في الحكومة المصرية التي وجدت بعد حادث شيرنوبيل أن الأمر النووي كله في مصر يحتاج مراجعة شاملة, ومن ثم كان قرار تجميد بناء المفاعل النووي الذي كانت له قصة طويلة. هذه القصة بدأها الرئيس السادات الذي وضع مشروعا لبناء ثمانية مفاعلات نووية وحصل بالفعل علي موافقة الرئيس الأمريكي جيمي كارتر علي المساهمة في بنائها. ولكن كارتر ذهب مع أول انتخابات رئاسية, والرئيس السادات تم اغتياله, وظهر تدريجيا أن كل الدول الأجنبية علي استعداد للحديث المطول, والدراسات المعمقة, عن المفاعلات; أما التنفيذ الفعلي فقد كان أمرا آخر. ولم يكن الأمريكيون مختلفين في ذلك عن الكنديين أو عن الأستراليين, وبدا الأمر كما لو كان هناك اتفاق دولي علي الوقوف ضد امتلاك مصر لمفاعلها النووي الأول. وجاء الرد المصري علي هذه المراوحة من خلال العمل والاعتماد علي الذات ومن ثم بدأت عملية واسعة لمسح الطاقة الصناعية المصرية اتضح منها أنه يمكن بناء ما بين55% و60% من المفاعل اعتمادا علي القدرات المادية والهندسية المصرية. وهو ما كان بالفعل حيث انتهت البنية الأساسية بالفعل ولكن مياها كثيرة مرت تحت الجسور وجري تجميد البرنامج النووي المصري كله. وبينما كان كل ذلك يحدث قام الدكتور علي الصعيدي بدعوة أعضاء مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام لزيارة موقع المفاعل بالضبعة في واحدة من ليالي الشتاء الباردة عام1986 لكي نكون شهودا ربما علي مشروع كانت له جذوره القائمة بالفعل. ولكن القضية لم تكن فقط أن بنية أساسية قد تم تجهيزها, أو أن دراسات تمهيدية قد تم إجراؤها حتي انتهت إلي موقع الضبعة, ولكن لأن من راهنوا علي حكاية رجال الأعمال في مواجهة مفاعل الضبعة كانوا في الحقيقة يعمقون قصة أكبر حول الصراع الذي يجعل رجال الاستثمار في مصر يقفون في ناحية وبقية المجتمع في ناحية أخري. لأن الثابت أن مصر لم تكن أبدا تخطط لوجود مفاعل واحد وإنما شبكة من المفاعلات وصلت إلي ثمانية في عهد الرئيس السادات, وأربعة في الخطة الحالية للمفاعلات ومن ثم إذا كان موضوع الضبعة قد تقاطع مع مشروعات سياحية وخدمية فماذا تكون الحال مع المفاعلات الأخري. والقصة هكذا باتت مفتعلة وصالحة لحكايات آخر الليل بين البرامج التليفزيونية لخلق تناقض لا أساس له, ويمكن حله في حالة وجوده لأن مصر تحتاج للمفاعلات لتوليد الطاقة, كما أنها تحتاج للسياحة والخدمات وكل ما يضيف إلي الدخل القومي. القصة ذاتها تكررت مع الانسحاب الأمريكي من العراق الذي كنت متأكدا منه هو الآخر لأن العصر لم يعد يتحمل احتلالا للأراضي علي الطريقة الاستعمارية القديمة, ولأن القضية لم تكن أبدا النفط الذي كان صدام حسين علي استعداد دوما لتقديمه بل وضمان تقديمه من بقية المنطقة. ولم تكن المسألة هي العصر فقط بل هي الطريقة الأمريكية في إدارة إمبراطوريتها العالمية, وباستثناء الفلبين فإن الولاياتالمتحدة إما أنها استولت علي أراض وضمتها كما حدث مع تكساس التي انتزعتها من المكسيك, أو لويزيانا ما يزيد علي مليوني كيلومتر مربع أي ضعف مساحة مصر التي اشترتها الولاياتالمتحدة من فرنسا, وألاسكا التي اشترتها من روسيا. وما عدا ذلك فإن أمريكا اعتمدت دائما علي امتداد إمبراطوريتها التجارية والصناعية من خلال الشركات العظمي إلي أسواق العالم المختلفة لكي تجعلها مرتبطة ارتباطا وثيقا بالسوق الأمريكية. وكان ذلك هو ما جري من قبل مع كندا, وأوروبا الغربية في الماضي والشرقية في الحاضر, واليابان, والآن الصين والهند وكافة الاقتصاديات الناشئة في آسيا وأمريكا الجنوبية. ما جري في العراق ومن قبله أفغانستان كان محاولة أمريكية ابتدعها المحافظون الأمريكيون الجدد من أجل تغيير مناطق جديدة في العالم وتنتمي إلي العالمين العربي والإسلامي لكي تدخل في إطار العولمة والسوق العالمية, ومن ثم فإن قضية الوجود العسكري ليست هي القضية الأساسية وإنما التغيير السياسي والاقتصادي. ولأنني كنت متأكدا أن هذه عملية تاريخية لا يصلح معها التغيير القسري فقد كنت واثقا أنه لن يمضي وقت طويل حتي تنسحب الولاياتالمتحدة من العراق ليس فقط نتيجة الفشل, وإنما أيضا لأن الشعب الأمريكي ليس لديه الصبر الكافي علي الفشل. وعلي أي الأحوال فقد بدأت أمريكا في ترك العراق وأصبحت المسئولية الآن بكاملها واقعة علي العراقيين الذين حصلوا علي حريات كثيرة وانتخابات نزيهة, ولكنهم حتي الآن لم يتمكنوا من إعادة بناء الدولة. في مصر كان هناك يقين لدي كثيرين أن الاحتلال الأمريكي للعراق هو عودة إلي الماضي المظلم بكل مثالبه وآلامه ومن ثم فإنه عودة إلي الاستعمار التقليدي بتقاليده القائمة علي المراوغة والاحتفاظ بالأرض والسيطرة عليها واستغلال ثرواتها لسنوات طويلة. مثل ذلك لم يكن قابلا علي أي حال للاستمرار سواء كان بالنسبة لأمريكا أو لغيرها, ليس فقط لأن مثل هذا العصر قد ولي وراح, وإنما لأن الأرض العراقية كانت وما زالت أرضا محملة بألغام كثيرة تنفجر في وجه هؤلاء الذين يحاولون حرثها علي طريقتهم الخاصة. في الحالتين الضبعة والعراق كان وراء الاعتقاد أيديولوجيات لا تتغير كلها تري عالم الحاضر تكرارا لماض استقرت فيه أحداث وأفكار. ولكن الواقع هو أن الدنيا لا تبقي علي حالها أبدا, وإنما تتغير وتتبدل لتأخذ أشكالا جديدة. والأمر الهام هنا ليس من هو علي صواب أو من هو علي خطأ, وإنما التفكير فيما وراء القضايا حيث لا يكمن الموضوع في بناء المفاعل النووي في الضبعة أو غيرها وإنما في تحديد ما سوف نفعله في بقية الخطة النووية وتمويلها, والأهم كيف سوف نقوم باستغلال الطاقة المتولدة عنها. وبالمثل فإن القضية لم تعد هل سيخرج الأمريكيون من العراق أم لا, ولكن القضية هي ماذا سوف يفعل العراقيون بعد خروج الأمريكيين من بغداد وكافة الأراضي العراقية, وهل ستتمكن القوي العراقية المختلفة من تجاوز خلافاتها وإقامة دولة عراقية قادرة علي مقاومة التدخل الأجنبي والحفاظ علي وحدة العراق في نفس الوقت. وفي الحالتين فإن الأمر يحتاج إلي حوارات جادة أكثر مما يحصل عليه حتي الآن!. إذا كان موضوع الضبعة قد تقاطع مع مشروعات سياحية وخدمية فماذا تكون الحال مع المفاعلات الأخري. والقصة هكذا باتت مفتعلة وصالحة لحكايات آخر الليل بين البرامج التليفزيونية لخلق تناقض لا أساس له, ويمكن حله في حالة وجوده لأن مصر تحتاج للمفاعلات لتوليد الطاقةوالأهم كيف سوف نقوم باستغلال الطاقة المتولدة عنها. وبالمثل فإن القضية لم تعد هل سيخرج الأمريكيون من العراق أم لا, ولكن القضية هي ماذا سوف يفعل العراقيون بعد خروج الأمريكيين من بغداد وكافة الأراضي العراقية, وهل ستتمكن القوي العراقية المختلفة من تجاوز خلافاتها وإقامة دولة عراقية قادرة علي مقاومة التدخل الأجنبي والحفاظ علي وحدة العراق في نفس الوقت