أوضحنا كيف واجه إيزنشتين تعنت شركة بارمون الأمريكية بعد دعوته للعمل في هوليود من خلال فيلم تراجيديا أمريكية والتي وصفت الشركة السيناريو المكتوب بأنه( يساري متطرف معاد للروح الأمريكية وهي التهمة التي استخدمتها لجنة المكارثية بعد ذلك لمطاردة الفنانين اليساريين في أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية.ولم ينقذ الموقف سوي عقد وقعه أيزنشتين مع الأديب الاشتراكي الأمريكي يونتون سينكلير ليصور فيلما في المكسيك بعنوان( فلتحيا المكسيك). .وسافر الي المكسيك بالفعل في ديسمبر1930, حيث أعد الفيلم في أربعة أقسام كتبت في شكل ملحمي, وصممت وفقا لبناء معماري( باروك) وصورت علي35 ألف متر من الفيلم الخام علي مدي عام كامل...مما أدي بالطبع إلي تجاوز الميزانية المقررة وسحب سينكلير تمويله للفيلم عام1932 قبل أن ينتهي أيزنشتين من تصويشر قسمه الرابع..بل ظلت السلطات الم كسيكية تمنع سفره لمدة شهر حتي تمكن من مغادرة المكسيك والعودة للاتحاد السوفيتي في ابريل1932 ولكن دون المادة المصورة التي استولي عليها المنتج. ووفقا لاتفاق مع هذا المنتج, اجري المخرج الأمريكي سول ليسر المونتاج لبعض ماصوره أيزنشتين ليخرج فيلما بعنوان( رعد فوق المكسيك) عام1933 متعتمدا علي القسم الثاني من فيلم( أيزنشتين) والذي يحكي قصة ثلاثة مزارعين يثورون علي احد ملاك الأراضي في المكسيك كما استخدم بعض مادة الفيلم في صنع الفيلم التسجيلي( القداس الجنائزي) عام1934, واستخدمت مادة أخري في فيلم( تحيا المدينة) من إخراج جاك كونواي وهوا رد هوكس في نفس العام وأصيب النقاد وأهل السينما والأدب في العالم بالإحباط لعدم خروج( فلتحيا المكسيك) الي النور, ولضياع هدفه الأساسي, وهو اظهار صمود واستمرار الحضارة الهندية منذ فترة ماقبل كولومبس وحتي1930.. الي ان جاء عام1939 حيث استطاعت المونتيرة ماري سيتون صديقة أيزنشتين, تجميع أوشراء أجزاء من المادة المصورة وأجرت لها المونتاج وفقا لخطة العمل التي وضعها المخرج نفسه. وهكذا خرج الي النور فيلم بعنوان( وقت تحت الشمس). ورغم أن( وقت تحت الشمس) لايمكن اعتباره رؤية متكاملة لأيزنشتين, الا أنه يعكس تفوقه البصري النادر والصادق..حيث قدمت اللغة البصرية المصاغة علي شكل( موازييك) غير متكامل الأبعاد رقة جمالية لواقع من المفترض ألا يكون هناك جمال فيه في ظل البؤس والفقر..وقدم أيزنشتين مشاهد الحياة اليومية للهنود الحمر في المكسيك, من احتفالات( أعياد الموت) الي صور العشاق علي الأسرة المشغولة من الخيوط والمعلقة علي الأشجار الا أن أهم وأجمل مشاهد الفيلم المشهد الملحمي الأسطوري لإعدام الفلاحين الثائرين عن طريق دفن أجسامهم تحت الأرض وترك رؤوسهم فوق سطحها لتكون فريسة للطيور الجارحة, وليبدو الفلاحون مثل نبات خارج من الأرض في رمز لتماهيهم معها. وفي1957, بعد تسع سنوات من وفاة أيزنشتين بأزمة قلبية, يهدي سينكلير, منتج الفيلم, النسخة الأصلية لشرائط الفيلم المصورة الي متحف الفن الحديث بنيويورك وفي1977, تسمح سياسة الوفاق بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتي باسترداد موسكو النسخة الأصلية, ليجري الكسندروف مساعد أيزنشتين المونتاج لها لصالح شركة( موس فيلم) السوفيتية, وليخرج الي النور عام1979 فيلم مدته ساعة وربع الساعة يعد أقرب النسخ لفكر أيزنشتين.. ولاتبقي سوي هذه الذكري من فيلم كان يمكن أن يكون واحدا من أجمل الأفلام في تاريخ السينما ولهذا المخرج العبقري قصة أخري مع الأفلام الممنوعة, حيث كان قد بدأ العمل عام1935 بعد عودته منكسرا الي الاتحاد السوفيتي في أول أفلامه الناطقة باسم( جداول ماء بيجين) وهو يدور حول أب من ملاك الأراضي( الكولاك) يقتل ابنه لأنه يعمل في المزارع الجامعية( الكولخوز) ليعترض عليه مدير مؤسسة السينما السوفيتية في ذلك الوقت( بوريس شومايتكسي الذي كان من الأنصار الواقعية الاشتراكية في السينما( أوقف تصوير الفيلم واستولي علي الأجزاء التي تم مونتاجها بدعوي أن ايرنشتين قدم رؤية منحرفة عن مباديء الاشتراكية لتناوله الواقع بشكل شاعري. وتمر الأيام ويسجن شومياتسكي بتهمة إفساد الإنتاج السينمائي الاشتراكي ضمن حملات التطهير الستالينية.. ويعود أيزنشتين للعمل مرة أخري بفيلم( الكسندر نيفسكي) لكن المادة المصورة من فيلم( جداول ماء بيجين) ظلت راقدة في مخازن شركة( موس فيلم) الي أن دمرت قنابل النازي هذه المخازن تماما في الحرب العالمية الثانية ليضيع أي اثر للفيلم. وفي وقت لاحق قدم مؤرخ السينما الروسي نعوم كليجمان والمخرج سيرجي يوتكيفيتش فيلما تسجيليا عن( جداول ماء بيجين) معتمدين علي الصور الفوتوغرافية التي التقطت أثناء تصويره.. والجمال الفائق لهذه الصور يظهر فداحة الخسارة السينمائية بضياع هذه التحفة التي راحت ضحية غباء الرقابة الستالينية وقنابل النازي. تم الغضب علي إيزنشتين من بعد فيلم إيفان الرهيب,لأنه قدمه بشكل رجل عادي وهو الإمبراطور الذي صنع روسيا العظمي, وذلك لأن ستالين كان يود أن يكون الفيلم رمزا له كمنقذ لروسيا,ليبتعد إيزنشتين عن السينما ويموت وحيدا. [email protected]