في ذكرى ميلاد نجيب محفوظ، التي تحمل رقم 103، ينشر "المقهى الثقافي" بعض شهادات كتّاب ومبدعين حول أديب نوبل. الكاتب والروائي محمود الغيطاني يقول في شهادته التي تحمل عنوان "نجيب محفوظ الذي قد لا يحبه الآخرون": لا يمكن إنكار أن القراءة المبكرة التي مارستها منذ الصغر قد أثرت عليّ بالإيجاب، فقد جعلتني أكاد أُشبه موسوعة تمشي على الأرض، حتى أنه لا يُذكر أمامي اسم كتاب، أو مؤلف إلا وأدلى بدلوي فيه، حتى لو لم أكن قد قرأت أعماله كلها، أو لم أكن قد قرأت هذا العمل من قبل، فأنا بالتأكيد أعرف عن الكاتب الكثير جدا، أو أعرف عن العمل الكثير من خلال ما كُتب عنه، بل وأسعى في هذه الحالة إلى استكمال النقص الذي يشوب معرفتي ،سواء بالنسبة للكتاب المذكور- إذا لم أكن قد قرأته، أو الكاتب إذا كنت قد قرأت حوله، ولم أقرأه. لكن هل هذا اللون من القراءة الموسوعية المبكرة ستجعلك مجرد موسوعة تمشي على الأرض فقط، بالتأكيد لا يمكن أن يكون الأمر كذلك؛ لأنه يتعارض مع منطقية الأشياء وصيرورتها، فالقراءة ليست مجرد تحصيل للمعلومات فقط، وليست مجرد أداة تُكسبك الإحاطة بالعالم فقط، وليست سوى طريق كي تتعالى على الآخرين من خلاله، بقدر ما استطعت تحصيله، بل هي في النهاية سوف تُكسبك قدرًا ليس بالهين من وجهة النظر باتجاه الحياة، أو بمعنى آخر ستجعلك القراءة/الثقافة تُعيد تشكيل عالمك، وتربية ذاتك بشكل آخر مخالف عما يختلف عن المجتمع، حتى لو كان هذا الشكل سيصطدم به؛ ليهدمه، ويُعيد تشكيله. قرأت نجيب محفوظ منذ المرحلة الثانوية تقريبا، ولا أنكر أني أحترم فيه كروائي أنه كان دءوبًا في الكتابة، نشيطًا، وحريصًا عليها كل الحرص، حتى أنه قد جعل لها أوقاتا تخصها بشكل يومي، وكأنها عمل، أو طعام لابد أن يتناوله في وقته المحدد، وهذا النظام الذي كان يسير عليه ليس بالنظام الهين بالنسبة لأي مبدع؛ لأنه يكاد يكون نوعًا من أنواع العذاب بالنسبة للمبدع الذي هو في جوهره غير ملتزم بأي شيء؛ نتيجة سيكولوجيته التي تخصه وحده، والمنطلقة دائما حيثما يحلو لها بدون أي قيود؛ ولذلك كان نجيب محفوظ حالة خاصة جدا من بين المبدعين الذين لا يعرفون الالتزام بالأوقات،أو بالكثير من الأمور. ربما لم أستسغ من أعمال نجيب محفوظ- رغم قراءتي له بالكامل- إلا القليل جدًا من الأعمال الروائية التي رأيت فيها أنها الأعمال الإبداعية الحقيقة لهذا الروائي الدءوب، أما ما سواها من الأعمال الكثيرة التي كتبها، فأنا أرى أنها كانت مجرد تدريب طويل ودائم على الكتابة، يمارسه الرجل دائمًا حتى لا تهرب منه ليونة، ودربة الكتابة؛ فالكاتب إذا ما ابتعد فترة عن الكتابة يجد صعوبة كبيرة في العودة إليها؛ نتيجة هذا الانقطاع، ولعل محفوظ كان من الكتاب الذين أدركوا هذه المعضلة التي تواجه الكثيرين، ولذلك لم يحاول في مرة من المرات الانقطاع عن التمرين اليومي للكتابة، إلا في السنوات التي سبقت كتابته للثلاثية، هذه السنوات التي ظن فيها نجيب محفوظ أن الكتابة قد تركته إلى غير رجعة، ولكن رغم أن محفوظ قد انقطع في هذه الفترة عن الكتابة الروائية، فإنه ظل في حالة تمرين دائم على الكتابة، بكتابته للسيناريوهات السينمائية الكثيرة التي كان يكتبها، وبذلك تحقق للرجل القدرة على الوجود الدائم في حالة إبداعية، وكتابية لا تنتهي. ربما كانت من أهم الروايات التي كتبها محفوظ روايته "ميرامار"، هذه الرواية التي صدرت في عام 1968م، والتي تحدث فيها عن حال مصر مستخدمًا لونًا من التقنيات الروائية التي لم يستخدمها من قبل، حيث جعل الراوي يروي الحدث من خلال وجهات نظر مختلفة، ومتباينة، على قدر عدد جميع شخصيات الرواية، فكانت كل شخصية تُعيد رواية الحدث من خلال وجهة نظرها التي تخصها وحدها، من دون الاهتمام بوجهة نظر الآخر والخلاف معه حين رواية الحدث، ولعل هذا اللون من الحكي هو تقنية سينمائية في المقام الأول تستخدمها السينما في التصوير حيث نجد الكادر السينمائي الذي نُطلق عليه "لقطة وجهة النظر" Point of view shot، وهو الكادر الذي تلتزم فيه الكاميرا بوجهة نظر معينة قد تختلف اختلافا بينًا عن وجهة نظر الشخصيات؛ لأنها تتبنى وجهة نظر شخص معين، أو وجهة نظر حيادية. ومن هنا يتبدى لنا مدى تأثر محفوظ بمجال السينما الذي كتب فيها كثيرًا، وكيف كان المجال السينمائي رافدًا مهمًا استخدمه محفوظ فيما يكتبه من أعمال روائية، ولكن لعلنا نلحظ أمرًا آخر شديد الأهمية جعلني لا ألتفت كثيرا إلى رواية محفوظ- وهذه هي السلبية في القراءة الدائمة المبكرة، هذا الأمر الذي أفسد متعتي بميرامار كثيرا، وهو أني كنت قد قرأت رواية "الصخب والعنف" للروائي الأمريكي وليم فوكنر قبل قراءة "ميرامار" محفوظ؛ وهو الأمر الذي جعلني أُدرك جيدًا أن محفوظ قد تأثر أيما تأثر بالشكل البنائي في الرواية التي تخص فوكنر، ومن ثم فقد كان ذلك واضحًا تمامًا في الشكل البنائي الذي كتب من خلاله محفوظ روايته. لا أنكر أني حينما كنت أقرأ ميرامار لم يكن في ذهني سوى رواية "الصخب والعنف" لوليم فوكنر، هذه الرواية البديعة التي إذا ما قرأتها مرة، فهي لن تنمحي من ذهنك أبد الدهر؛ وبالتالي إذا ما انتقلت إلى قراءة رواية أخرى تستخدم نفس التقنية في البناء والسرد فستتأكد أنها لا يمكن أن تضاهي جمال ما فعله بك فوكنر من قبل، ومن هنا فسدت قراءتي لهذه الرواية البديعة التي أرى أنها من الروايات القلائل التي كتبها محفوظ. من بين الروايات المهمة التي أرى أنها كانت واسطة العقد بالنسبة لنجيب محفوظ رواية "ثرثرة فوق النيل" 1971م، هذه الرواية البديعة جدا- على الأقل من وجهة نظري الخاصة-، والتي تكمن براعته في كتابتها أنه كان بالفعل مطلعًا على صيرورة الأدب في العالم، أو بمعنى آخر كيفية طُرق السرد، وما يكمن خلفه من فلسفة تؤدي به إلى هذا التغير؛ ولذلك حينما حدثت انتكاسة عام 1967م، هذه الانتكاسة التي أدت إلى تغيير كبير وشامل في كل ما يخص العالم العربي سواء على مستوى السياسة أو الفن، لم يكن نجيب محفوظ بمعزل عن هذا الحدث المفصلي، والتاريخي، ولم يهمله أو يحاول التملص منه؛ فهذا الحدث قد أدى إلى وجود كارثة في السينما المصرية، هذه الكارثة التي جعلت السينما تنحو باتجاه العبث الكامل، حتى أن معظم الأفلام السينمائية المصرية التي كانت في هذه الفترة التي تلت هذه الانتكاسة كانت مجرد أفلام لا معنى لها أو لون. أو بمعنى آخر، ومن وجهة نظر أخرى فلقد كانت تُعبر عن هذه الفترة التي كان المجتمع المصري فيها، بل والعربي بالكامل لا يشعر سوى بالعدمية والعبث؛ فهاجرت السينما المصرية إلى بيروت؛ لتتم صناعتها هناك في معاملها، ومن خلال منتجيها واستديوهاتها، بل ورفعت الرقابة يدها تمامًا عن السينما التي صُنعت في ذلك الوقت، ربما كي يكون هناك انفراجة، ولو بسيطة، أمام صناع السينما، وأمام الجمهور حتى لا ينفجر- لاسيماأن الجميع على شفا الانفجار-، فرأينا أفلامًا مثل "حمام الملاطيلي" للمخرج صلاح أبو سيف 1973م، وفيلم "سيدة الأقمار السوداء" 1971م للمخرج سمير خوري، وفيلم "ذئاب لا تأكل اللحم" للمخرج سمير خوري 1973م، وغيرها الكثير من الأفلام. ولم يكن محفوظ بمعزل عن الحالة العبثية التي انتابت كل شيء- وهي حالة طبيعية جدًا تنتاب المجتمعات بعد الكوارث العظمى، والحروب الكبرى-، ولعل هذا ما سبق أن حدث من قبل بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، حيث وجدنا أوروبا بالكامل تحيا في حالة فنية، واجتماعية، وحياتية شديدة العبثية واللاجدوى، وهو ما تمثل لنا فيما أُطلق عليها حينها مسرح العبث، أو اللامعقول التي كان من أهم روادها الكاتب الفرنسي، الأيرلندي الأصل صمويل بيكيت الذي قدم لنا عام 1953م، مسرحيته الأشهر "في انتظار جودو" Waiting for Godot، هذه المسرحية التي مثلت العبث في أقصى صوره، كذلك كتب لنا في هذا الاتجاه الفرنسي ألبير كامي، والبلغاري يوجين يونسكو، والروسي آرثر أداموف، والفرنسي جان جينيه، والإنجليزي هارولد بنتر، وغيرهم الكثيرين من الكتاب الذين تبنوا هذا اللون من الكتابة بعد فترة الخراب، والانكسار العظمى التي تلت الحربين العالميتين في أوروبا، والتي رأت أنه لا جدوى من هذه الحياة. نقول انه بعد انتكاسة عام 1967م، حدث في المجتمع المصري والعربي، حالة أشبه بنفس هذه الحالة التي حدثت في أوروبا بعد الحربين العالميتين؛ وبالتالي أثرت هذه الحالة العبثية على كتابات الكثيرين من كتابنا العرب والمصريين، والذين كان منهم نجيب محفوظ، الذي كتب روايته "ثرثرة فوق النيل" التي تُصور هذه الحالة الاجتماعية، والثقافية، العدمية التي وقع فيها الجميع، من خلال جميع شخوصه التي لا يعنيها شيء في الحياة سوى السهر كل يوم في العوامة؛ لتدخين الحشيش، ومعاقرة الخمور، والرقص، وقضاء الوقت في اللاشيء؛ نظرا لأن كل شيء لديهم يتساوى مع هذا اللاشيء، ولعل هذه الرواية تكاد تكون من أهم الروايات التي كتبها محفوظ، بل وأنضجها على الإطلاق؛ حيث صورت لنا حالة صادقة للمجتمع بلون كتابي لم نألفه من قبل في الكتابة العربية. ربما يكمن ذكاء محفوظ في الكتابة كروائي أنه كان منتبهًا دائمًا لحركة المجتمع من حوله، الأمر الذي جعله يتأمل جيدًا في مجرد حادثة بسيطة في المجتمع المصري، جعلته يكتب روايته البديعة "اللص والكلاب" 1962م، وهي الرواية المستوحاة من واقعة حقيقية بطلها "محمود أمين سليمان" الذي شغل الرأي العام لعدة شهور في أوائل عام 1961م، وقد لوحظ اهتمام الناس بهذا المجرم، وعطف الكثيرين عليه، فقد خرج "محمود أمين سليمان" عن القانون؛ لينتقم من زوجته السابقة ومحاميه؛ لأنهما خاناه، وانتهكا شرفه، وحرماه من ماله، وطفلته وكان هذا سببًا مهمًا من أسباب تعاطف الناس معه، ولتحقيق انتقامه ارتكب العديد من الجرائم في حق الشرطة، وبعض أفراد المجتمع، فأثارت هذه الواقعة اهتمام محفوظ؛ ومن ثم استلهم منها هذه الرواية التي تكاد تكون من اهم رواياته؛ نظرا لأنه لم يكتف بالنظر إلى الواقعة الواقعية فقط، بل نظر إلى ما وراءها من أمور خافية على الآخرين، ومن ثم استطاع من خلال خياله الروائي أن يقدم لنا عالمًا مختلفًا تمامًا عما حدث على أرض الواقع. ربما كان نجيب محفوظ من أكثر الكتاب المصريين غزارة في كتابة الرواية، وربما كان هو الأشهر حتى اليوم، ولكن لا يمكن إنكار أن محفوظ ظل يُكرر نفسه في معظم أعماله الروائية في صورة واحدة فقط، وهي صور الحارة المحفوظية التي لا تتحدث إلا عن الفتوات والحرافيش، من خلال مجموعة من التأملات الحياتية والفلسفية، والاجتماعية التي كان يراها محفوظ، لكنها في نهاية الأمر لا تخرج عن مجرد تنويعات متعددة على فكرة واحدة لم تختلف، ولذلك كانت هذه الروايات التي ذكرتها من الروايات التي أرى أنها من اهم ما قدمه لنا محفوظ من أعمال.