د. عبد المنعم سعيد ربما يكون صعبًا الحديث عن القضية الفلسطينية فى زمن السلام، حيث كان تاريخها كله مرتبطًا بزمن الصراع، سواء كان ذلك صراعًا عربيًا إسرائيليًا أو فلسطينيًا إسرائيليًا أو حتى لو كان صراعًا واقعًا فى الإطار الكبير لحركات التحرر الوطنى من الاستعمار والاحتلال، أو حتى فى إطار الخلافات العربية حول ما إذا كانت القضية هى وجودًا أو حدودًا. الفرضية هنا أن كل ما سبق كان زمنًا، وأننا عرب والفلسطينيون بينهم نعيش زمنًا آخر، ليس فقط لأن الإمارات والبحرين والسودان انضمت إلى مصر والأردن فى إقامة علاقات سلام مع إسرائيل، وإنما لأن الموقف الفلسطينى الرسمى الذى أعلنه وزير الخارجية رياض المالكي زميل حركة السلام العربية الإسرائيلية سابقا - هو الدعوة إلى عقد مؤتمر دولى للسلام للتعامل مع القضية الفلسطينية . بشكل ما فإن ذلك يدعو للعودة مرة أخرى إلى نوع من دبلوماسية مؤتمر مدريد فى مطلع التسعينيات من القرن الماضي. هو بحث عن السلام من خلال حضور جمع دولى فى وقت اختلفت فيه الدنيا عن الوقت الذى انتهت فيه الحرب الباردة ، وتزعمت فيه الولاياتالمتحدة ولاية العالم، وأصبحت موسكو فى معية واشنطن، وبينهما كانت أوروبا ترى عالما تتم فيه تسوية المنازعات الأزلية ومن بينها القضية الفلسطينية . حماس الفلسطينية أيضا لها مقترب آخر لحل القضية يقوم على الاقتراب من إسرائيل فى إطار من التهدئة التى من الناحية العملية تجرى بين الطرفين فى غزة، بحيث تتوقف الصواريخ الفلسطينية مقابل وقف الهجمات المدمرة الإسرائيلية. وفى الاتفاق أو التفاهم الذي توسطت فيه قطر بين الطرفين فإن إسرائيل سوف تمد غزة بالكهرباء وتوسع نطاق صيد السمك فى البحر المتوسط للفلسطينيين. هو نوع من السلام بمعنى وقف القتال أو التعايش السلمى وكفي. التوفيق ما بين مقترب السلطة الوطنية الفلسطينية ومقترب حماس ليس سهلا، خاصة أنهما معا لا يحملان موقفا موحدا فى إستراتيجية صراع أو وئام فلسطينية، وإنما تناقض ما بين مقترب مدريد الذى ترفضه حماس وما كان له من توابع فى اتفاقية أوسلو ، ومقترب حماس للتهدئة المنفردة مع العدو الإسرائيلي. سواء كان الأمر هذا أو ذاك، فإن القضية الفلسطينية تقع فى هوة اختلاف الأزمنة التى نعيش فيها عما كان عليه الحال قبل ثلاثة عقود تقريبًا، والواقع الدولى الحالى بما فيه من مزاج دولى عكر بأزمة الكورونا، وتغيرات إقليمية هائلة امتلأت بالثورات والحروب الأهلية والعنف الراديكالى الإرهابى الذى دفع القضية الفلسطينية دفعا إلى قاع اهتمامات ومصالح دول المنطقة. ما حدث عمليا خلال السنوات العشر الأخيرة أن المنطقة العربية تعرضت لخلل بالغ استغلته القوى الإقليمية الأخرى؛ سواء كانت إيران أو تركيا أو إسرائيل للحصول على مكاسب إضافية أو تحقيق أطماع تاريخية كانت بالنسبة للأولى نفوذا ووجودا سياسيا وعسكريا فى العراقوسوريا ولبنان واليمن، وبالنسبة للثانية احتلالا فى سوريا، ووجودا ونفوذا فى ليبيا، أما الثالثة فقد ذهبت إلى ضم أراض فلسطينية جديدة قامت عليها مستوطنات إسرائيلية غير شرعية أو تراها إسرائيل حيوية لأمنها مثل غور الأردن. الضم هكذا مثل تهديدا جديدا للقضية الفلسطينية، ودمارا لاتفاق أوسلو، وتهديدًا مباشرًا للدولة الأردنية. نتيجة أخرى للتغيرات الإقليمية الكبيرة التي جرت خلال العقد الماضي، بما فيها أيضا ارتفاع أسعار النفط ثم انخفاضها الشديد، هى أن موقفا يشبه ذلك الذى حدث فى أوروبا بعد الثورة الفرنسية حينما قام على أنقاضها توجه نحو الدولة القومية التى يعيش فيها مواطنون ينتمون إلى هوية بعينها. ترجمة ذلك بتعبيرات المنطقة العربية نمت فيها وبقوة ما حدث فى أوروبا من إدراك أهمية الدولة الوطنية التى هى من ناحية تعبر عن حقيقة جيو سياسية بما لها من حدود، وهوية خاصة بها تميزها عن غيرها، ومصالح متميزة يصبح فيها الأعداء والحلفاء أكثر تحديدًا من أى وقت مضى من ناحية أخري. ببساطة فى هذه الحالة يصبح الأمن الإقليمى قائما على ما يتحقق من أمن لدول الإقليم الذى يعنى غياب التهديد والعدوان، ويكون ذلك بحزمة من سياسات تعزيز القوة الذاتية للدولة، والتحالفات الإقليمية ذات التأثير فى حماية الدولة ورفع التهديد عنها. أخذا لكل ذلك فى الاعتبار، فإن أيا من المقتربين الفلسطينيين للتعامل مع القضية الفلسطينية لا يبدو مثمرًا، فلا توجد ظروف تسمح بتوافق دولي على عقد مؤتمر لبحث القضية، حتى إذا ما انعقد فإن توافقًا أمريكيًا روسيا ليس متاحًا فى هذه المرحلة، والصين علاقاتها مع إسرائيل تجعل من تحقيق ما يراه الفلسطينيون حقًا أمرًا غير قريب. مقترب حماس هو الآخر يبدو مختلا، لأنه يعتمد على درجة من الانضباط السياسى والإستراتيجى لا تملكه المنظمة التي تستمد تزايد شعبيتها على حساب السلطة الوطنية من إطلاق الصواريخ على إسرائيل وتلقى الضربات منها، وحتى لو جرت التهدئة بين حماس وإسرائيل فإن المنافسة النضالية بين حركة الجهاد الإسلامى ومنظمات أخرى مع حماس تجعل وقف المواجهات أمرًا مستحيلًا. ما يحتاجه الفلسطينيون فى هذه المرحلة أولا استيعاب المرحلة الحالية من التغيرات الجارية فى المنطقة العربية، وثانيًا البحث فى كيفية الاستفادة من التطورات الأخيرة لمصلحة القضية الفلسطينية ، والدرس هنا هو أن علاقات السلام بين مصر وإسرائيل خففت كثيرا من العدوانية الإسرائيلية على قطاع غزة، ولولا أن حماس قسمت الصف الفلسطينى لكان الموقف الآن يسمح برابطة أقوى بين الضفة الغربية وقطاع غزة بالميناء على البحر المتوسط والمطار والغاز. ولا جدال أن السلام الأردنى الإسرائيلى وضع إسرائيل فى إشكالية كبرى إزاء ضم غور نهر الأردن؛ وأيا كان الموقف الفلسطينى من السلام الإماراتى الإسرائيلي، فإن تعليق الضم الإسرائيلى كان ثمنا مدفوعا مقابل السلام. وثالثا أنه آن الأوان على القيادات الفلسطينية أن تضع إستراتيجية سلام واضحة تقوم فى جانب على أن تكون هناك سلطة وطنية فلسطينية تحتكر الاستخدام الشرعي للقوة المسلحة، ومن جانب آخر البحث الجدي فى خيارات الدولة الواحدة أو الدولة الكونفيدرالية وفى إطار من التفاوض المباشر مع إسرائيل. * نقلًا عن صحيفة الأهرام