إنجاب الأبناء والبنات سمة من سمات البشرية، وتحديد العدد صفة من صفات العقلاء. واستثمار الوقت والجهد وما يتوافر من مال - قليلًا كان أو كثيرًا – للصغار؛ ليكونوا أفضل حالًا من الآباء والأمهات سنة من سنن الإنسانية. أما الإنجاب بغية ضخ الصغار في سوق العمل الهامشي، أو الزواج لتوفير دخل إضافي للأسرة؛ فهو سمة من سمات الجشع، وعدم وضع حد أقصى للعدد على أمل زيادة رأس المال - أي العيال - صفة من صفات العشوائية. واستثمار الوقت والجهد لزج ابن العاشرة للعمل في قطاع البناء، وإجبار أخيه على قيادة "توك توك"، أو دفع الصغيرة للزواج، أو الخدمة في المنازل، وجني المال من ورائهم جريمة مكتملة الأركان. الركن الذي يخشى كثيرون من الاقتراب منه هو الركن الديني؛ حيث يقول البعض أعلى المنابر ما لا يفتون به بعد نزولهم؛ تنظيم الأسرة في زمن صعب كالذي نعيشه، وكبح جماح سباق الأرانب في ظرف اقتصادي ومعيشي قاس كالذي نخوضه أمر جائز، بل ومطلوب من وجهة نظر الدين. هذا ما يقال من أعلى المنابر. وقد شهدت المنابر على مدار السنوات القليلة الماضية - وتحديدًا منذ تقلد الوزير الشجاع الدكتور مختار جمعة منصبه - تطرق خطب الجمعة إلى قضايا جريئة وشجاعة عدة، من بينها تنظيم الأسرة. وما يقال في هذه القضية من أعلى المنابر يدور في إطار أن الزيادة السكانية الكبيرة جدًا الحادثة في مصر تشكل خطرًا داهمًا على البناء والتنمية، وقد يقول الخطيب أن الزيادة السكانية غير المنضبطة لا ينعكس أثرها على الأفراد والأسر فحسب، بل تشكل أخطارًا على الدول التي لا تأخذ بأسباب العلم لعلاج قضاياها السكانية. لكن بعضهم إن سئل "على جنب" يقول كلامًا غير الكلام، ويدعم موقفًا مؤيدًا للتكاثر على أن يأتي الرزق بعد ذلك، وذلك في الأروقة غير الرسمية البعيدة عن الأعين والآذان. وقال الوزير الدكتور مختار جمعة بنفسه في إحدى الخطب قبل نحو عام إن "الكثرة إما أن تكون كثرة قوية منتجة متقدمة يمكن أن نباهي بها الأمم في الدنيا، وأن يباهي نبينا (صلى الله عليه وسلم) بها الأمم يوم القيامة؛ فتكون كثرة نافعة مطلوبة، وإما أن تكون كثرة كغثاء السيل عالة على غيرها جاهلة متخلفة في ذيل الأمم، فهي والعدم سواء". وسواء أغضبت هذه الكلمات البعض، أو ناسبت منطق البعض الآخر، فإن كلمات وزير الأوقاف واضحة وضوح الشمس في زيادتنا السكانية؛ ونظرة سريعة إلى الشارع نجد القاعدة السكانية الآخذة في التكاثر والتوالد تضخ سائقي "توك توك" لم تطئ أقدام بعضهم أرض مدرسة، و"سياس" يعيشون على "قفا" أصحاب السيارات دون القيام بعمل ذي معنى، ودون الانتماء إلى جهة ما تنظمهم، وعاملات منازل لا حقوق لهن، وعمال بناء بعضهم "مش باين من الأرض"، و"كناسين وكناسات" كثيرين منهم لا تتجاوز أعماره سن ال12 عامًا؛ لا سيما في المجتمعات العمرانية الجديدة، ناهيك عن المتسولين وأطفال الشوارع وغيرهم. فهل هذه الكثرة العددية التي يصر عليها البعض – بوعي أو دونه- تحقق القوة المنشودة؟ وهل قرار الأهل بإنجاب أعداد لا حصر لها من الأطفال مدروس، أم أنه إنجاب بغرض الإنجاب؟ وهل الأمر حرية شخصية؛ بمعنى حرية البعض في ضخ سبعة أو ثمانية أطفال في الشارع لأنني حر؟! ولماذا يعطي أولئك الحق لأنفسهم لتحميل الحكومة "المتقاعسة" مغبة إطعامهم وكسوتهم وعلاجهم ولا أقول تعليمهم لأن التعليم لم يعد أولوية للبعض؟ ولماذا يشكون شظف العيش وضيق ذات اليد؛ محملين من يملك مسئولية المساعدة والمساندة؛ لمجرد أنهم قرروا أن ينجبوا وينجبوا وينجبوا؟! ويحلو للبعض أن يتصور أن هذه دعوة ليتوقف الفقراء عن الإنجاب؛ مع فتح عنان الإنجاب للأغنياء، لكنها ليست كذلك. فحتى أولئك القادرون ماديًا على إنجاب "قرطة عيال" عليهم التفكر والتدبر في المصلحة العامة. هل البلاد حمل ضخ هذه الأعداد؟! وهل الشوارع يمكنها أن تصمد لوقت أطول أمام هذه الحمولة متناهية الثقل؟ وهل الكباري والبيوت يمكنها أن تستوعب المزيد من السيارات والناس والمحلات وغيرها من الخدمات؟ الخدمة الكبيرة التي أسداها الدكتور عبدالله النجار عضو مجمع البحوث الإسلامية يوم أمس في برنامج "صالة التحرير" الذي تقدمه الإعلامية عزة مصطفى من خلال مداخلة هاتفية تكمن في جرأة وشجاعة في توصيف الإنجاب العشوائي؛ فقد أكد أن تحريم تنظيم الأسرة لا يمت للدين بصلة، ووصف من يحرمونه ب"الجهال" معللًا ذلك بأنهم يسوقون معلومات دينية مضللة؛ فالإنجاب - كما أوضح - دون القدرة على الإنفاق "استهانة بخلق الله لأن الاب مسئول عن الولد". مسئولية الأب والأم عن الولد والبنت لا يدق عليها الكثيرون ممن ينشرون أفكارًا ظلامية قوامها أن تنظيم الأسرة حرام؛ هم يدقون فقط على وتر الكثرة العددية، وكأنها سباق محموم لغزو العالم بالكثرة، وهم مغيبون غارقون في وهم أكل عليه الزمان وشرب. فغزو العالم في الألفية الثالثة يمكن أن يحدث من وراء جهاز كمبيوتر، ولا يحتاج ل"جحافل وتكاتك وسياس"، لكنه يحتاج علمًا ومنطقًا ودماغًا قادرة على أن تعقل الأمور قبل أن تتوكل. كلمة أخيرة: دفع المواطنين إلى تنظيم أسرهم يمكن أن يتم عبر تطبيق القوانين الموجودة وغير المفعلة؛ معاقبة المتسببين في عمالة الأطفال، وزواج الطفلة، والتسرب من المدرسة بحسب نصوص القوانين كفيلة بمراجعة قرارات الإنجاب النابعة من اعتبار الصغار رأس مال يتم ضخه في السوق انتظارًا للعائد المادي.