يعانى الاقتصاد المصرى من كثير من التشوهات والاختلالات منذ اكثر من ثلث قرن. وعندما يتفاقم الوضع الاقتصادى تجرى بعض الاصلاحات كما حدث فى الاصلاح الاقتصادى والهيكلى فى عام 1991 .وبعد تحسن الاحوال لفترة وجيزة تعود «ريمة لعادتها القديمة» وذلك لعدم الاستمرار فى اصلاح مسار الاقتصاد، فى ظل الظروف المتغيرة والمتجددة. والاصلاح فى جانب رئيسى منه يعنى القضاء على هذه التشوهات والاختلالات الاقتصادية وهى عديدة منها: الخلل بين الانتاج والاستهلاك، وزيادة الواردات على الصادرات، وعجز الادخار عن تغطية الاستثمارات المطلوبة. وقصور فرص التوظف عن عرض العمل ومن ثم ارتفاع معدل البطالة، ووجود فائض فى بعض المهن والتخصصات وعجز شديد فى غيرها، وانخفاض الانتاجية عن المستويات العالمية، مما يتسبب فى الارتفاع النسبى لاسعار السلع والخدمات عن نظيرها الاجنبى، ومن ثم تراجع درجة تنافسية الاقتصاد المصرى وغيرها مثل عجز الموازنة العامة والعجز المزمن فى ميزان المدفوعات واحد الاختلالات والتشوهات التى نعرض لها فى هذا المقال.. هى قضية الاسكان وايجارات المساكن ومدى توافرها. ان السكن من الحاجات الاساسية للناس، التى يجب ان تعنى بها الحكومات والدول، وتعمل على تلبيتها قدر الاستطاعة، وإزالة ما يعوق توافرها، واتاحتها لفئات الدخل المختلفة، ومظاهر الخلل فى القضية السكنية عديدة منها: وجود مساكن تبحث عن سكان »اى شقق خالية ومغلقة« وفى نفس الوقت يبحث سكان عن شقق للايجار، كما توجد ايجارات شديدة الانخفاض لوحدات سكنية فاخرة فى مناطق راقية فى الوقت الذى ترتفع فيه ايجارات شقق ضيقة فى مناطق عشوائية متدهورة. وفى كثير من الحالات يدفع شاغل شقة فسيحة تربو مساحتها على 200 م ايجارا لا يصل الى عشرة جنيهات فى الوقت الذى تبيت فيه سيارته فى جراج او فى الشارع بأجرة قد تصل الى 200 جنيه فى الشهر. وقد ظلت ايجارات المساكن القديمة مثبتة الاجرة لما يزيد على ستين سنة بعد خفضها فى الخمسينيات من القرن الماضى، فى الوقت الذى زادت فيه اسعار جميع السلع والخدمات بنسبة عالية مما اوجد خللا جسيما بين الايجارات والاسعار الاخرى. وعلى سبيل المثال كان ايجار شقة متوسطة (إيجارها 5 جنيهات شهريا) يشترى عشرة كيلو جرامات من اللحم، كان سعر كيلو اللحم فى اوائل الستينيات يقل عن 50 قرشا. أما هذا الايجار فلا يستطيع ان يشترى سوى مائة جرام من اللحم على افتراض ان متوسط ثمنه 60 جنيها للكيلو جرام، ومن مظاهر الخلل ايضا ان ساكن شقة ببضعة جنيهات يستطيع ان يؤجرها من الباطن ببضعة آلاف من الجنيهات فى حين لا يحصل مالكها الا على الفتات. اى ان المستأجر يستطيع ان يتاجر بمال المالك الذى هو اولى ان يستفيد منه. الآثار المترتبة على الخلل: يترتب على الاوضاع السابق ذكرها اثار اقتصادية واجتماعية وسياسية خطيرة اهمها: 1 - تدهور حالة الثروة العقارية، ان انخفاض ايجارات المساكن القديمة مع عدم إلزام شاغليها بصيانتها، ادى الى تدهور المبانى والثروة العقارية، وليس مستغربا ان نسمع كل يوم عن انهيار مبنى او اكثر نتيجة لذلك ناهيك عن تشوه المسكن وتهديد الحالة الصحية بالاوبئة والامراض. 2 - اختفاء المساكن المعروضة للايجار. فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى كان المستأجرون يفضلون الانتقال الى شقق اخرى بدلا من دهان شققهم، وذلك فى محاولة ملاك هذه الشقق جذب شاغلين لها، وعندما ثبتت الايجارات بل تخفيضها بالتدخل غير الرشيد من الدولة، أحجم المستثمرون عن بناء مساكن للايجار، وعرضوا بناياتهم للتمليك فقط. ومن ثم اختفت »يافطة للايجار« . وفى هذا ضرر اجتماعى كبير على اصحاب الدخول المحدودة، الذين استهدفت الحكومة رعايتهم بتثبيت الايجارات. 3 - الظلم وعدم العدالة بين المالك والمستأجر، اذ زاد دخل المستأجرين زيادة كبيرة عبر نصف القرن الماضى ولم يزد دخل اصحاب المساكن مما ادى الى تدهور احوالهم المعيشية خاصة الارامل وكبار السن الذين يتعيشون على هذه الايجارات، وسقطت هذه العائلات تحت خط الفقر، بجميع مستوياته المطلقة والنسبية. 4 - الضغوط التضخمية، يعانى الاقتصاد المصرى من وجود ضغوط تضخمية من مصادر عدة من بينها انخفاض ايجارات المساكن القديمة وتثبيتها، ذلك انه من المتعارف عليه دوليا ان المسكن يستحوذ على نحو 20٪ من دخل الاسرة. ونظرا لانخفاض هذه النسبة الى اقل من واحد فى الالف بالنسبة لكثير من شاغلى المساكن القديمة فإن الفرق يذهب لاستهلاك سلع وخدمات اخرى وهذا من اسباب زيادة اسعار الخضراوات والفاكهة وارتفاع استهلاك الطاقة نظرا لاستخدام التكييف والادوات الكهربائية الاخرى التى لم يكن لها وجود من هذه المساكن فى الماضى. 5 - المساكن المغلقة، نظرا لانخفاض الايجارات بشدة احتفظ بها المستأجرون مع سداد الايجار بالرغم من عدم استخدامهم لها وعدم الحاجة الىها اصلا وذلك فى الوقت الذى يحتاج اصحابها وغيرهم الى هذه المساكن. وفى هذا تعطيل لموارد الدولة وسوء استخدامها. 6 - تزايد المشاحنات وتضخم عدد القضايا، ادى تثبيت الايجارات مع توريث العقود لجيلين الى تزايد التشاحن بين افراد الاسرة الواحدة بل ان بعض الابناء طردوا آباءهم وامهاتهم من الشقق القديمة الفاخرة كى ينفردوا باستخدامهم وفى هذا افساد اجتماعى كبير وعدم بر بالوالدين، وتدنى القيم الحميدة فى المجتمع. واسهمت الخلافات فى تضخم عدد القضايا وتكدست بالمحاكم وكان الله فى عون رجال القضاء. ومن الممكن تخفيف هذا العبء بازالة اسباب التقاضى، وتحقيق العدالة الاجتماعية بين المستأجر والمالك عن طريق تصفية المشكلات بالقرارات الاقتصادية المتوازنة. نريد حلا. تستطيع مصر بامكاناتها المستغلة والمعطلة ان توجد حلا طويل الأجل وجذريا لمعضلة الاسكان، لقد اتخذت الحكومة اجراءات فى الماضى نحو ذلك منها السماح بايجارات محدودة المدة بغير تدخل فى تحديد قيمة الايجارات وقصر توريث عقود الايجار على جيلين تاليين للمستأجر الاصلى، الا ان هذه الاجراءات غير كافية، وقليلة التأثير فى حل قضية الاسكان. ولست ادرى لماذا لم تقتحم الدولة هذا الميدان مثلما فعلت فى قضية ايجار الاراضى الزراعية التى حددتها من خمس سنوات من صدور القانون. وازعم ان تحرير ايجارات المساكن وبعد فترة انتقالية معقولة، اكثر يسرا ونفعا بالمقارنة لايجارات الاراضى الزراعية وذلك لأن نسبة لا بأس بها من اصحاب هذه المساكن مالكون وفى نفس الوقت شاغلون لهذه المساكن. ومن ثم بقدر ما يتضررون فإنهم سوف يستفيدون من الاصلاح ومن ثم اتوقع ان يكون هناك اعتراض مثل الذى حدث فى حالة ايجارات الاراضى الزراعية. ان الاصلاح السليم من الخصائص التى يجب ان يتصف بها هى »التدرج«. وكذلك يوصى بأن يكون اصلاح أوضاع السكن وحل مشكلته بالتدرج المتسارع خلال سبع سنوات يتم بعدها تحرير ايجارات المساكن القديمة، وينظم سوق الاسكان قانون العرض والطلب الذى ليس كمثله فاعلية فى حل هذه المشكلة. والاجراءات المقترحة اساسا هى ما يلى: ا - اصدار تشريع يحدد الحد الادنى لايجارات المساكن بمبلغ 400 جنيه شهريا، وهذا المبلغ هو ايجار ادنى انواع الشقق فى المناطق العشوائية المتدهورة. فما اجدر من ان يكون كذلك بالزمالك او جاردن سيتى او المعادى او مصر الجديدة او غيرها، وهذا الاقتراح فى حدود امكانات الغالبية العظمى للشاغلين لهذه المساكن وربما يؤدى الى ارتفاع الايجارات وبعض الاثمان الأخرى، الا انه سيكون وقتيا وقد حدث فى دول اخرى الخليج على سبيل المثال ان ارتفعت ايجارات المساكن الى اربعة اضعاف فى اعقاب زيادة اسعار البترول، الا انه انخفضت بعد ذلك الى النصف تقريبا وهذا ما يتوقع ان يحدث فى ظل سيادة قانون العرض والطلب. ب - عدم التثبيت الدائم للايجار بعد هذه الزيادة، والنظم المتبعة فى العالم هى زيادة بنسبة التضخم 10٪ سنويا او تثبيت الايجار لمدة خمس سنوات ثم يُرفع بعدها الى ايجار المثل. ويفضل النظام الاول نظرا لتدرجه. ج - وحتى يكون الاصلاح محققا للمكاسب للجميع، اى يتم تخصيص نصف الزيادة كايراد للموازنة العامة للدولة خلال السنوات السبع، والنصف الآخر يذهب لاصحاب المساكن. وهذا الايراد يخفض عجز الموازنة بمقدار لا يقل عن 20 مليار جنيه سنويا اى يخفض عجز الموازنة الحالى بنسبة حوالى 10٪ خلال المرحلة الانتقالية، ونحن فى أشد الحاجة الى ذلك.