منذ اثني عشر عاما لم يحضر ولم يعتذر لي وزير الاسكان السابق د. محمد ابراهيم سليمان بعدما دعوته ومجموعة من الخبراء المتخصصين ووافق علي المشاركة في احدي حلقات البرنامج التليفزيوني المنتدي الاقتصادي الذي كنت أقدمه سنوات طويلة علي شاشة القناة الأولي برغم أنه كان يعلم موضوع الحلقة ومهتما بالمشاركة فيها, وكانت عن الايجارات القديمة للشقق. ربما يكون قد وصل إلي خاطره ما كان قد باح لي به وزير الاسكان الأسبق المهندس صلاح حسب الله من أن تلك الايجارات هي الظلم بعينه. وأذيعت عدة حلقات عن الايجارات القديمة للمساكن وجاءني مئات من الخطابات والتعليقات وهي دين في رقبتي تجاه الذين أرسلوها من كل أرجاء الوطن.. كان ذلك في ديسمبر1997. قصة طويلة وراء نفق الظلم الذي لا يريد أحد أن يقترب منه. فقد فعلتها الثورة في مراحلها الأولي وانحيازها تجاه الطبقة الفقيرة ومحدودي الدخل وهذا أمر هام ولا غبار عليه وأصدرت قوانين تخفيض ايجارات المساكن, وتجمدت الأمور عند هذه الحدود دون أدني مراعاة لعوامل التضخم أو ارتفاع اسعار الأراضي ومواد البناء وأجور العمال, أو مدي ردود الفعل واحجام المستثمرين عن البناء لانخفاض العائد من هذا الاستثمار الذي أصبح خاسرا بعدما كان أحد الأساليب التقليدية للاستثمار. تدخلت الدولة وبالمناسبة كلما تدخلت في قوانين الاسكان ازدادت الأزمة استحكاما وفي هذه المرة عقب نكسة1967 لتوسيع قاعدة المعروض من الوحدات السكنية وابتدعت اسلوب التمليك الذي تحول الآن إلي سوط رهيب يلهب ظهر كل من يفكر في الحصول علي وحدة سكنية( راجعوا أسعار بيع الشقق المنشورة في الصحف) كما ابتدعت اسلوب البناء ثم التوزيع بمعرفتها وبالتقسيط, وهو أمر جعل الفساد والمحسوبية من سمات عملية التوزيع, حيث حصل عليها من حصل, وتربح منها من تربح. انقلب الحال وتحول ملاك العمارات من مستثمرين يحصلون علي عائد لاستثمارهم إلي مجرد وقف لا يسمن ولا يغني من جوع. وتأتي الآن الضريبة العقارية لتضربهم في العمق, فهي لا تنظر إلي الايجارات التي لا تساوي بضعة أرغفة من الخبز, ولكنها تنظر إلي الموقع والمكان وأن الشقق الآن قد ارتفعت اسعارها الي حدود خيالية, وبالتالي تخضع لسوط الضريبة والبعض يروج لها بنظرية الربا والرهونات حين يقال ان تسجيل الملكية يسمح بالاقتراض من البنوك وتشغيل رأس المال الخامل, وهذا عودة بمصر إلي الوراء إلي أيام الرهونات التي ابتدعها واشتغل بها يهود مصر, وخربت بيوت الكثيرين وحولتهم من أثرياء إلي فقراء أشقياء. وسوف تنشغل البنوك بالرهونات العقارية, وتبتعد عن تمويل مجالات الاستثمار الأخري باعتبار أن الأصول العقارية ضمانة كافية وسهلة لمنح القرض ولم يسأل أصحاب تلك النظرية والعودة إلي الماضي المظلم للاستثمار العقاري والزراعي, فيما سوف تستخدم تلك القروض التي يروجون لها, وهل سيتحول الناس جميعا إلي مضاربين في البورصة؟ لقد أدي تثبيت القيمة الايجارية وامتداد العقد امتدادا تلقائيا إلي خلل في سوق الاسكان وتناقضات كبيرة لا تتفق والعدالة الاجتماعية, ولقد مرت التشريعات المنظمة للعلاقة بين المالك والمستأجر بعدة مراحل نظمها أولا القانون المدني( م558) عرفت الايجار بأنه: عقد يلتزم المؤجر بمقتضاه ان يمكن المستأجر من الانتفاع بشيء معين مدة معينة لقاء أجر معلوم, ثم جاءت مجموعة من الأوامر العسكرية التي صدرت اثناء الحربين العالميتين الأولي والثانية منعت الملاك من زيادة أجرة الأماكن إلا في حدود ضئيلة وقررت امتداد العقود الايجارية لضمان منع طرد المستأجرين في ظروف حرب عالمية وتلك كانت فترات استثنائية, ولكنها اعتبرت أساس قوانين الاسكان التي اصدرتها الثورة. ما الذي ترتب علي تلك القوانين؟ باختصار كان لها نتائج غاية في السوء علي سوق الاسكان والعلاقة بين المالك والمستأجر: خروج الاستثمار الخاص من سوق الاسكان للايجار الي الاندفاع في التمليك مما يعجز عنه الكثير من فئات المجتمع برغم صدور قانون التمويل العقاري إلا أنه يواجه بالعديد من المشاكل العملية التي تحول دون نفاذه, وبالتالي اختفي الايجار وساد التمليك ايضا عدم العدالة بين شرائح المجتمع. وسوء توزيع الوحدات السكنية علي الأسر المصرية وبروز ظاهرة الشقق المغلقة لرخص ايجارها واحتفاظ المستأجرين بها رغم أنف الملاك وحاجتهم اليها, وانتشار الاسكان العشوائي, واسكان المقابر وتجمد الحراك السكاني وزيادة الكثافة المرورية وعدم صيانة العقارات والمحافظة عليها وتشوه النمو العمراني للمدينة المصرية. وقد يتساءل البعض وما هو الحل؟ لقد أوضحت دراسات العديد من دول العالم( النمسا فنلندا انجلترا التشيك المكسيك شيلي فنزويلا كندا) انه قد يكون من المستحيل تحرير العلاقة دفعة واحدة بعد طول تجميدها, والحل هو التدرج في تحرير هذه العلاقة علي مراحل وتقسيم الوحدات السكنية الي شرائح حسب تواريخ انشائها, والتدرج في زيادة الأجرة زيادة محسوبة تزيل التفاوت والظلم الشديد الحالي في قيمة الايجارات, فلا يعقل ان تكون القيمة الإيجارية لشقق في جاردن سيتي والزمالك أرقي مناطق القاهرة تبلغ7 جنيهات شهريا بينما فاتورة المياه20 جنيها أو الكهرباء300 جنيه, أو رسوم النظافة التي يتم تحصيلها مع فاتورة الكهرباء أعلي من ذلك. الحل كما طرحته رسائل مشاهدي البرنامج آنذاك عام1997 وآراء الخبراء الذين استضفتهم في حلقات البرنامج عن هذا الموضوع هو تقسيم المباني حسب سنوات الانشاء, فمثلا المباني قبل عام1960 تزيد200% فالايجار6 جنيهات يزيد إلي18 جنيها ومن60 1964 يزيد150%( من10 جنيهات إلي25 جنيها), وهكذا حتي يعود التوازن والحقوق المسلوبه الي أصحابها فلا يعقل ان يستمر وضع تفويض الملاك أمرهم إلي الله ويتركوا املاكهم العقارية تتوارثها أجيال دون زيادة مليم واحد.. إنه وضع يشبه المصادرة فمن يضع الجرس في رقبة القط حتي تنتهي تلك المأساة ويضع حدا للظلم.