د. ياسر ثابت حسابيًا، نحن فى العام 2014، لكن أفكار البعض وتصوراتهم عن الحياة والغيبيات المختلطة فى كثير من الأحيان بالخرافات وأعمال الشعوذة، تسحب من رصيدنا أكثر من ألف عام. لنعد قليلاً إلى الوراء. فجأةً تراجعت قائمة الأولويات فى حياة كثيرين وانزوت المشكلات والأزمات فى مطلع عام 2007، لتفسح المجال أمام الحكاية الجديدة: شجرة الكافور المباركة. أصبحت تلك الشجرة الموجودة فى موقف العاشر على طريق مصر- الإسماعيلية الصحراوى صداعًا للبعض من سكان المنطقة ورجال الأمن.. بعد أن روّج البعض أن لفظ الجلالة واسم الرسول الكريم محفوران على لحائها. وبالرغم من تأكيد أكثر من لجنةٍ علمية أنها ليست شجرةً مباركة، فإن كثيرًا من المواطنين واصلوا التكالب عليها والتدافع للتمسح بها، ليصنعوا زحامهم الخاص الذى عرقل حركة المرور، وتسبب فى تلقى قسم النزهة أكثر من بلاغ لوقائع نشل وسرقات حدثت فى موقع الشجرة. لم يتوقف كثيرون عند تقرير اللجنة العلمية برئاسة عميد زراعة عين شمس د.عبدالعزيز حسن أستاذ النبات بالكلية لفحص الشجرة، الذى أكد أن العبارات الموجودة عليها حفرها أحد الأشخاص منذ ستة أشهر.. وأفرزت الشجرة مكان الحفر ما يسمى ب»التكلسات» والتى صبغت العبارات المحفورة باللون البني، مما أعطى انطباعًا بأنها طبيعية. هذا ليس بالأمر المهم، فالشجرة أصبحت بالفعل مزارًا دينيًا رئيسيًا فى مصر تسمع فيه بوضوح صيحات تكبير الرجال وأصوات النساء وهن يجهشن فى البكاء. ولا تسل: أين اختفى عقل مصر؟ فليس المهم من يحكم فى القصر بل من يتحكم فى العقل. أخذت كرة الثلج تكبر والحكومة عاجزة عن اتخاذ قرارٍ بسيط يغلق باب الفتنة الزائفة من عينة قطع الشجرة.. عجزٌ آثار الريبة فى رغبة ودوافع التلكؤ فى مواجهة الخرافة التى تتغذى على الجهل والإهمال.. والتواطؤ. وهكذا وجد المرتزقة مصدرًا واسعًا للتربح، لدرجة أن أحدهم صورها وطبعها ووقف يبيع الصورة مقابل جنيهين: «معجزة»! هكذا يهتف باعة الأوهام فى زمن الجهل، ليلتف حولهم كثيرون من أتباع الخرافات، ويواصل أهل الحيل والآلاعيب بيع «المعجزات» بمقابلٍ مادى ويطلبون منك أن تصدق الكذبة؛ لأنها حسب رأيهم «إلهية» لا تقبل الرد ولا تحتمل النقاش. متلاعبون بالعقول ومتسترون بالدين يجدون طريقهم مفروشةً بأشخاصٍ مستعدين لتصديق أى شيء لتستمر اللعبة، من دون أن يسأل أحدهم نفسه عن الحقيقة أو يخضِعَ ما يراه للعلم والمنطق.. وكأنهم يريدون أن يقولوا لنا إن هذه «الاكتشافات العظيمة» هى الطريق إلى الإيمان، فى حين يتعين أن نؤمن أكثر بأن الدين ليس بحاجةٍ إلى شجرة كافور أو حجرٍ أصم أو حبة فاكهة أو خضروات كى نعرف أن الله - عز وجل- موجودٌ فى كل مكان وأنه - سبحانه وتعالى- هو خالق هذا الكون الذى يُسيِّره كيف يشاء. إن هؤلاء الأشخاص يكذبون على أنفسهم حتى يصدقوا الخدعة ويبتلعوا أقراص الوهم، ثم تجدهم يتولون مهمتهم «المقدسة» فى نشر الضلالات والخرافات بين الناس.. فالألوهية ليست فى حاجةٍ إلى مثل هذه الاكتشافات التافهة، وليست أيضًا فى انتظار كشفٍ علمى كى نقول إن هذا الأمر ورد فى القرآن.. فالإسلام قائمٌ والخالق موجود، دون أى «كرنفال» أو دعاية من نوعية العثور على لفظ الجلالة على شجرة كافور على طريق مصر- الإسماعيلية الصحراوى. وقبل نحو عقدين من الزمان انتشرت فى الشوارع والميادين الرئيسية فى مصر لوحةٌ ملونة كان الباعة يهتفون للترويج لها باعتبارها معجزة.. اللوحة كان مكتوبًا تحتها إنها صورةٌ التقطها شخصٌ ما فى إحدى غابات ألمانيا حيث تبدو الأشجار المتراصة وكأنها تشكل جملةَ «لا إله إلا الله». جازت الخدعة على كثيرين وانتفخت معها جيوب الباعة ومن ورائهم أصحاب هذه الحيلة، بعد أن نجحوا فى خداع العديد من المواطنين الذين كانوا يقفون أمام هذه اللوحة بانبهار، ثم يمدون أيديهم فى جيوبهم ليشتروا «المعجزة» بمبلغٍ لا يزيد على جنيه واحد، ثم ينطلقون إلى أعمالهم ومنازلهم، ويعلقونها كى يراها غيرهم ويردد مثلهم: «سبحان الله». لكن اللعبة لم تستمر طويلاً. فقد ظهر د. سيد الخضرى أستاذ علم الأدوية ليؤكد أن الصورة المزعومة ليست سوى لوحة.. مجرد لوحةٍ عادية رسمها بنفسه وصاغها بفرشاته وسجلها فى الشهر العقارى فى المنصورة فى 10 سبتمبر 1987.. لكنه فوجئ بمن يستغل الفكرة بشكلٍ سيىء ويغرر بالعامة من دون أى مراعاةٍ لحقوق الفنان الأدبية.. فليس من المهم هذه الحقوق بقدر ما يهم المنتفعين جنى مزيدٍ من الأرباح ولو كان ذلك عن طريق نشر الأكاذيب والضلالات وادعاء المعجزات والخوارق. الطريف أن هذا الفنان التشكيلى والأستاذ الجامعى الذى أبدع اللوحة تلقى تهديدات بالقتل فى محاولةٍ لإسكاته.. ربما لأنه قطع الطريق على من حاولوا استغلال اللوحة وبيعها على أنها صورة مأخوذة من إحدى غابات ألمانيا لتدلل على أن قدرة الخالق وصلت إلى قلب أوروبا.. وربما أيضًا لأنه أيقظ الناس من سباتهم على حقيقة اللوحة التى يملك نسختها الأصلية للتدليل على صحة كلامه. يأسف الإنسان أحيانًا عندما يرى ضلالات تنتشر وترسخ فى أذهان الناس حتى تتحول إلى حقائق لا يجوز المساس بها أو الحديث عنها، مع أن العقل يرفض أن يكون الإيمان بالله عز وجل عن طريق كتابة على قشرة برتقالة أو نقشٍ محفور فى حجر صلد أو من خلال حيوانٍ برأسين. إننا غارقون حتى آذاننا فى الخرافات. وبالرغم من أننا نعيش عصر الفضاء والإنترنت والهندسة الوراثية، فإننا نواصل تصديق مثل هذه الحكايات الغريبة ونلوكها فى مجالسنا مع بعض الإضافات والتوابل اللازمة على سبيل الإثارة والتشويق. يعتمد مروجو الخرافات والمتربحون منها على الاستدراج النفسى والتكسب بهموم الناس ودغدغة العواطف والإيهام بالحلول فى مجتمع انسدت فيه السبل والطرق الطبيعية لحل هذه المشكلات على نحو علمى بتحليل الأسباب ومحاولة تغييرها. هكذا أصبح منطقيًا، ودون أى احترام لأى قواعد علمية، أن يعلن أحدهم عن اكتشاف قطرة (علاج) لكل أمراض العيون، هى قطرة «العرق» زاعمًا أن تفكيره هداه إليها بعد أن تمعن فى سورة «يوسف»، ورأى أن قميص يوسف الذى ألقى على وجه يعقوب فارتد بصيرًا، كان يحتوى على عرق النبى يوسف! وحسب إخصائى الطب النفسى د. عمرو أبو خليل، فقد جنى هذا النصّاب الملايين من توزيع «قطرة العرق» للمستسلمين لهذا التخريف والخبل، تحت أعين الجميع من علماء دين وأساتذة طب، ولم نسمع أحدًا أو جهة ما تصدت لهذا العبث. فى السنوات الأخيرة، انتشرت قنوات تعلن عن مشايخ لعلاج الوساوس والهواجس والظنون والأوهام. تقرأ الكف، وتعرف الطالع، وتستعين بقوى الأفلاك، وتوصل المشاهد بعالم الغيب، الجن والشياطين، وتُعين على إبليس، وتساعد فى معرفة القرين. وفى الألفية الثالثة، هناك أشخاصٌ يصرون على معالجة «الخضة» بالطاسة، والإمساك بالخشب منعًا للحسد، وكسر «القلة» بعد انصراف ضيف ثقيل الظل، وقرص العريس أو العروس فى الركبة للحاق سريعًا بركب المتزوجين.. ونجد من يخشى القطط السوداء اللون والكنس ليلاً وترك المقص مفتوحًا، ويرى أن رمى قشر الثوم أمام عتبة المنزل يجلب النكد، ويرفض غسل الملابس يوم الاثنين أو خلع الأسنان يوم الاثنين أو الأربعاء أو هز الأرجل وأنت جالس على طرف السرير؛ لأن ذلك يجلب «الفقر». خرافاتٌ وأساطير وأوهام تشدنا بقوة إلى تاريخ ما قبل الميلاد، فى حين يبحث العالم عن مزيد من المنجزات العلمية والطبية التى تيسر نوعية الحياة على الأرض. لقد نحينا العلم جانبًا وتركنا أنفسنا فريسةً للجهل المطبق الذى يلغى العقل، وتناسينا أن الدين يدعونا إلى طلب العلم وإعمال العقل والبعد عن البدع والخرافات والتطير من باب التشاؤم. والظاهرة تتعدى حدود المنطق أحيانًا لأنها ترتدى فى كثيرٍ من المناسبات مسوح الدين - أى دين- حتى تضمن الكثير من الأتباع والمصدقين.. أما الهدف فقد يكون رغبةً من مدعى «المعجزة» فى كسب المال أو الشهرة أو لفت الأنظار وتحويلها عن قضايا اجتماعية وسياسية مثارة فى تلك الفترة. وفى أوقات الشدائد وأزمنة المحن وفترات الأزمات، يلوذ الناس بالخرافات، التى تتحول إلى وباء يتفشى ويُعمى القلوب والأبصار. المصيبة أكبر من مجرد حكاية شجرة أو خرافة تظهر هنا أو هناك؛ إذ إن دراسة أعدها المركز القومى المصرى للبحوث الاجتماعية والجنائية تقول إن فى مصر نحو 300 ألف دجال، منهم 100 ألف فى القاهرة وحدها. وتضيف أن 38% من أهل الفن والرياضة والسياسيين يترددون على هؤلاء الدجالين.. وهناك يخترق جاهلٌ حاجز عقولهم ومستوياتهم الاقتصادية ومؤهلاتهم التعليمية لتبدأ رحلة استغلال جيوبهم، فى مجتمع معظمه شقي، الفقير بفقره، والغنى لخوفه على ثروته. تلك الجيوب أنفقت نحو 10 مليارات جنيه فى عام 2003 على الدجالين والمشعوذين، حسب دراسة أجراها المركز القومى المصرى للبحوث الاجتماعية والجنائية، تشير إلى أن ما يصل إلى 274 خرافة تتحكم فى سلوك المصريين. الغريب أن بعض كتب التراث بل ومؤلفات من يوصفون عادةً بالمؤرخين تزخر بمثل هذه «الخوارق» و»المعجزات» التى قد تتناقلها الألسن وتضيف إليها مرةً بعد أخرى.