أحمد أمين عرفات كلنا يذكر صورة المريض النفسى التى رسختها السينما فى أذهاننا، وهى صورة مرعبة وخاصة فى طريقة التعامل معه داخل جدران المستشفيات والمصحات النفسية، وكم من كتب صدرت منذ سنوات وهى تحمل صورا بشعة لما يلاقيه هؤلاء المرضى، وظل الأمر كذلك حتى خرج للنور قانون جديد للصحة النفسية جعلنا نودع القانون القديم الذى صدر فى الأربعينيات من القرن الماضى وخلف وراءه هذا الميراث المظلم الذى جار على حقوق المريض النفسى، ولكن ماذا عن وضعه الآن وبعد مرور حوالى 4 سنوات من صدور اللائحة التنفيذية للقانون الحالى، هل تغير إلى الأفضل، أم ظل الوضع كما هو وكثير من القوانين مجرد حبر على الورق ؟ هذا ما حاولنا التوصل إليه من خلال التحقيق التالى : البداية كانت مع د. راجية الجرزاوى مسئولة ملف الصحة والتمييز بالمبادرة المصرية وإحدى المشاركات فى وضع القانون، حيث قالت: لا شك أن هناك تطورا كبيرا حدث فيما يتعلق بحقوق المريض النفسى، وإن كنا نأمل أن يكون أكبر من ذلك، فقد تغيرت الرؤية والنظرة له، فلم يعد " المعتوه" كما كان يصفه القانون القديم ، بل شخص صاحب حقوق على المجتمع، وهذا مكسب كبير لأنه لا قيمة للنصوص القانونية فى حد ذاتها ما لم تتغير المفاهيم والتوجهات والنظرة من قبل المجتمع للمريض النفسى . بل إن أهم مكتسبات هذا القانون أنه أول قانون يتعامل مع المرضى النفسيين ويضع حقوقهم فى متن القانون، فلا يوجد قانون لمريض القلب وغيره، علاوة على وجود نصوص به تضمن حقوقه فى المعيشة والحياة وحقه فى تغيير الفريق العلاجي. ومن أهم ما أضافه القانون الحالى أيضا، هو اشتراط ألا يكون هناك طبيب واحد يقرر مصير المريض النفسى، وجعل القرار من خلال لجنة أو طبيبين على الأقل، أحدهما من خارج المكان، كما أنه فتح سكة الشكوى للمريض من خلال المجلس القومى للصحة النفسية والموجود فى معظم المحافظات . علاوة على إنشاء هيئات وسبل للرقابة منذ دخول المريض، والمراجعة على كل الإجراءات الخاصة بتعامل المستشفى معه، وهو ما لم يكن موجودا من قبل بهذا الشكل . وعن سلبيات القانون أكدت د. راجية عدم تركيزه على قضية العلاج المجتمعى، وضرورة عودة المريض النفسى للمجتمع مرة أخرى، ووضع آليات هذه العودة بشكل يجعله يتفاعل معه، لا أن يتحول لمعاق وعبء على الدولة، لذلك نطالب بوضع هذه الآليات لمساعدتهم على الحياة . طوارئ ظالمة وتنتقد د. راجية تحول الطبيب النفسى إلى ما يشبه القاضى، فيصبح من حقه حرمان المريض النفسى من حريته كإنسان ويعالجه رغما عنه، مطالبة بضرورة وضع الضوابط بما يتوافق مع التطورات العالمية. مشيرة أن تعارض المصالح المعوقات التى تواجه المريض النفسى، فالطبيب الخاص قد لا يفكر سوى فى إدخال المريض وبقائه فى المستشفى الذى يملكه رغم أن الحالة لا تستدعى ذلك، وبالتالى لابد من وضع ضوابط لحماية المريض فقد يتم إدخاله المستشفى الخاص وهو ليس بالمريض. مشيرة إلى التناقض بين القانون ولائحته التنفيذية، فالقانون ينص على أن إحضار المريض رغم إرادته من المنزل يستلزم استدعاء النيابة، لكن اللائحة ترى بأن تخديره بواسطة المهدئات لشل حركته لا يعتبر إجبارا ولا يستدعى إبلاغها، كذلك فيما يتعلق بالجلسات الكهربائية، فالقانون ينص على ضرورة موافقة المريض، مع إبلاغ المجلس القومى للصحة النفسية، و موافقة طبيب من خارج المستشفى، ورغم ذلك يتم أعطاء المريض جلسات الكهرباء بحجة ما يسمى بالطوارئ، بل سمحت اللائحة التنفيذية للطبيب بإعطاء 3 جلسات كحد أقصى، وهو ما لا يتفق مع نص القانون . تؤكد د. راجية أنه بعد إقرار القانون واللائحة، أصبح وضع المريض النفسى أفضل مما كان عليه، لكن الوضع حاليا يتجه للأسوأ، لأن القانون منذ بدايته كان له معارضون من الأطباء والممرضين وغيرهم من العاملين بالمستشفيات ممن يخشون المسئولية، لأن القانون يحاسبهم لمصلحة المريض، وهناك منهم من ذهب بالفعل إلى النيابة، وتم توقيع الجزاء عليه. ضد القانون يتحفظ د. علاء غنام مدير برنامج الحق فى الصحة بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، على اللائحة التنفيذية للقانون قائلا : هذه اللائحة لا توفر كل الحقوق التى كنا نطمح فيها وتنسجم مع الحقوق الدولية للمريض النفسى، بل لا تنسجم مع القانون نفسه، الذى كنا متحمسين له وكنت من ضمن المشاركين فى وضعه، فهناك مثلا بعض أنواع العلاج يجبر عليها المريض دون موافقته مثل الجلسات الكهربائية، والحجز لفترة طويلة، رغم أن القانون استلزم ضرورة موافقة المريض، وأن يشرح له الطبيب جدوى العلاج منه والبقاء، مهما كانت حالته، فليس حقيقيا أن المريض النفسى - ليس كما يشاع عنه - فاقد للأهلية ولا يملك قراره، أو أنه خطر على المجتمع، فى حين أن الواقع يقول إن المجتمع هو الذى أصبح خطرا عليه ويوصمه بما ليس فيه . وعن تفسيره لهذا الاختلاف بين القانون ولائحته أشار إلى أن نص القانون بالفعل جيد ولصالح حقوق المرضى لكن اللائحة التنفيذية جاءت لصالح كبار الأطباء وحمايتهم، فى حالة قيامهم بالحجز الإجبارى للمريض والعلاج دون موافقته، وعدم خروجه من وقت لآخر ليتواصل مع المجتمع والحياة من حوله، كل ذلك جعل المرضى يعيشون فى مناخ غير جيد عاد بنا إلى القرن السابع عشر عندما كان يتم حرق المرضى فى أوروبا بحجة أن مرضهم النفسى ما هو إلا مس من الشيطان، وهكذا نجد أن اللائحة التنفيذية أعادت روح القرون الوسطى لتسيطر على المرضى النفسيين. مشيرا أن القانون خطوة للأمام ولكن لائحته عادت به خطوات للوراء . من جانبه يقول د. يسرى عبد المحسن، أستاذ الطب النفسى جامعة القاهرة : القانون أضاف كثيرا للمريض النفسى، ويكفى أنه أعطى له حرية الاختيار فى دخول المستشفى من عدمه، ونفس الشىء فيما يتعلق بتلقى العلاج، كما جعل الدخول الإجبارى بشروط قويه جدا، وأن يكون بشهادة اثنين من الأطباء ولابد من إخطار المجلس القومى للصحة النفسية خلال ساعات قليلة من دخوله المستشفى، كذلك أعطى للمريض حق تحديد المدة التى يبقى بها داخل المستشفى، ليس هذا فحسب بل ألزم مستشفيات الأمراض النفسية بأن تلتزم بشكل معين من حيث مواصفاتها الشكلية والعلاجية، وبالتالى أصبح هناك نوع من الديمقراطية وأعطى للمريض النفسى حقوقا لم يكن يعرفها من قبل. حالة خطيرة وعن مدى قدرة المريض النفسى على تحديد مصيره بالشكل الذى يجعله يتخذ قراره بنفسه أكد د. يسرى بأن ذلك يرجع لنوع المرض نفسه، فإذا كان هذا المرض يجعل صاحبه فاقدا للبصيرة، ففى هذه الحالة ألزم القانون المستشفيات والأطباء بضرورة الحصول على موافقة أهله والقائمين على رعايته، وإذا كان المرض غير مؤثر على بصيرة صاحبه بحيث يكون مدركا لما يقول ويفعل وهى أمراض عديدة، هنا يكون له الحق فى اختيار من يعالجه والمكان الذى يعالج فيه، وكل شيء يتعلق به حتى جلسات الكهرباء، ولو جار الطبيب على هذا الحق تتم مقاضاته وتضيف د. حنان غديرى رئيس وحدة التأهيل بمستشفى العباسية ومدير إدارة طب المجتمع بالأمانة العامة للصحة النفسية قائلة : القانون الجديد أقر حق المريض فى الموافقة على كل ما يتعلق به، حتى الإجراءات التى ينتقدها البعض فهى ليست لحماية القائمين على علاج المريض لكنها لحماية المريض نفسه، فكل شيء تتم بإرادته، إلا فى الحالات التى يرى الطبيب فيها أن الحالة خطيرة وتهدد صاحبها أو المحيطين به، هنا يقوم بتحويله من إرادى إلى إلزامى، ولا يتم ذلك من خلال الطبيب فقط بل لابد أن تكون هناك جهة مستقلة من خارج المستشفى تقوم بتقييم الحالة ، والقرار النهائى لها سواء بالموافقة على رأى الطبيب أو رفضه، ويكون ذلك من خلال المجلس القومى للصحة النفسية، ولفترة محدودة أقصاها 3 شهور، ثم يعرض أمره على لجنة أعلى لتقرر ما فى صالحه، فكل هذه الإجراءات معروفة ومن يخالفها يتعرض للعقوبات . علاج لا عقاب ويرى د. حسام حسن مسئول لجنة الإعلام فى المجلس القومى للصحة النفسية أن القانون الحالى خطوة للأمام، لأنه أعطى كل تركيزه على كيفية العلاج، عكس قانون سنة 44 الذى كان كل همه منصبا على كيفية حجز المريض، وبالتالى فهو جاء لصالح المريض النفسى، ولست مع من يقول بأن لائحته التنفيذية تتعارض معه، لأنه لو كان ذلك صحيحا لأصبحت لائحة غير قانونية، ويمكن الطعن فيها. وعما يتردد حول جلسات الكهرباء أشار د. حسام، إلى أن الأفلام السينمائية أسهمت فى وجود مفهوم غامض ومرعب عن هذه الجلسات، رغم أنها علاج مطلوب وذات تأثير فعال فى بعض الأمراض، وما لا يعرفه الكثيرون أن لها شروطا لاستخدامه، فهو يعطى بجرعات معينة، ولا يتم إلا تحت تخدير كامل وأدوية باسطة للعضلات وبعد تحليل دمه، تماما كما يحدث مع من سيجرى عملية جراحية، كل ذلك حتى لا يشعر بأى ألم، وهذا بنص القانون . فهو العلاج الوحيد الذى جاء عنه نص قانونى، لذلك يخضع للمساءلة القانونية من يخالف ذلك، لأنه علاج وليس عقابا.