عندما صدر قانون الصحة النفسية الجديد منذ عدة شهور بما يتضمنه من تعديلات للقانون رقم141 لسنة1944 فإنه عالج العديد من أوجه القصور وضمن حقوق المرضي النفسيين. لكنه لم يخرج الي حيز التنفيذ لعدم صدور لائحته التنفيذية التي طال انتظارها وانفضت دورة برلمانية دون أن يصدر, مما يجعل المهتمين والمتخصصين يطالبون مجلس الشعب المنتخب بأن يجعل في مقدمة أولويات أجندته التشريعية إصدار هذه اللائحة التنفيذية خاصة آليات تمويل المخصصات المالية حتي نتمكن من دمج المرضي الذين تجاوزوا مرحلة العلاج في المجتمع.. فهذا أحد حقوقهم المنسية.. أو بمعني أدق: المتجاهلة! في البداية لابد أن نعترف بأن لدينا اكثر من15 ألف مؤسسة اجتماعية لايتجاوز عدد المهتمين منها بهذه الفئة عدد أصابع اليد الواحدة!! ليس هذا فقط بل تخاذلت هذه المؤسسات ومعها المؤسسات المدافعة عن حقوق الانسان عن المشاركة في إعداد اللائحة التنفيذية للقانون والتي لا تقل أهمية عنه بل وتعد مكملة له ولم تقم بأي دور للحفاظ علي حقوق المرضي أو الذين استقرت حالتهم منهم ولم يتمكنوا من العودة لذويهم ولم تقم هذه المؤسسات أو تلك بأي دور في دعم وتمويل مؤسسات ومراكز علاج الصحة النفسية التي لا تتجاوز مخصصاتها2% فقط من إجمالي الانفاق الحكومي علي الصحة, ووفقا لتقارير منظمة الصحة العالمية تعاني مصر بشكل عام من نقص خدمات الصحة النفسية المجتمعية والوقائية بالرغم من تأكيد آخر المسوح انتشار الاضطرابات النفسية بين البالغين في مصر بنسبة17% وتكشف احدي الدراسات عن أن50% من الطلبة لديهم أعراض اضطرابات نفسية,كما تنتشر هذه الاضطرابات بصور أخري بين كبار السن بنسب تتراوح بين2.2% الي5.4% ويرجع نقص الخدمات المجتمعية في مجال الصحة النفسية كما يري المتخصصون الي عدة أسباب من أهمها فقد أصحاب المشكلة وهم المرضي للقدرة علي التعبير عن أنفسهم وخجل ذويهم من التحدث عن معاناتهم نظرا للثقافة السائدة في المجتمع المصري من اعتبار هذا المرض وصمة يجب أن يتواري أصحابها عن الأنظار متجاهلين أن مصر كانت سباقة في الاهتمام بهؤلاء المرضي منذ ستة قرون مضت حيث كان السلطان قلاوون حريصا علي زيارة هؤلاء المرضي بنفسه في القسم الخاص بهم في مستشفي قلاوون بالقاهرة التي كانت تقدم خدمات الصحة النفسية للفقراء الي أن جاء الاحتلال البريطاني ونقل إلي مصر النموذج الغربي المتمثل في عزل هؤلاء المرضي في مستشفيات منفصلة. يري د. علاء سليمان نائب الأمين العام للصحة النفسية ورئيس مجلس ادارة مستشفي الصحة النفسية بالعباسية ان الحقوق التي ينص عليها القانون الجديد تتطلب إرادة المجتمع وأيضا مخصصات مالية وارادة سياسية تتبني تنفيذه ومؤسسات مجتمع مدني لها ثقلها تعمل علي تفعيله. ويؤكد د. علاء أهمية وجود مخصصات مالية لتفعيل القانون لأن مستشفيات الصحة النفسية المستفيدة من التمويل الحكومي الحالي تبلغ طاقتها حوالي ستة آلاف سرير ومتوسط إشغالها في العام حوالي42 ألف مريض بينما توجد أيضا أقسام للصحة النفسية بالمستشفيات العامة وتبلغ طاقتها600 سرير, وأقسام الطب النفسي في9 كليات طب وبها حوالي200 سرير, أما المستشفيات الخاصة فتبلغ طاقتها الاجمالية750 سريرا, ويبلغ عدد العيادات الخارجية للصحة النفسية حوالي62 عيادة, اثنتان منها فقط مخصصتان لخدمة الأطفال والمراهقين, وعيادة واحدة فقط لمتابعة الحالات التي تتلقي العلاج في المجتمع, أي غير محتجزة بالمستشفي, وعيادة واحدة متنقلة, أما مراكز الرعاية النهارية فلا يتجاوز عددها مركزين فقط ووفقا لتقارير منظمة الصحة العالمية لا يوجد في مصر أي خدمات للاقامة طويلة المدي أو برامج للاسكان مخصصة للمرضي النفسيين في أثناء أو بعد العلاج. وينبه الي انه توجد مشاكل عامة لمعظم المستشفيات وأخري خاصة بكل مستشفي, بعضها متوارث عن إدارات سابقة وبعضها الآخر نتيجة الاجراءات الروتينية العقيمة فيما يتعلق بالصيانة علي سبيل المثال والعمالة المؤقتة ومركزية العمل في البعض منها وضعف مرتبات الأطباء وفريق التمريض رغم محاولات رفعها في الفترة الأخيرة, وتحول بعض أقسام هذه المستشفيات إلي دور ايواء لمن يرفض ذووهم تقبلهم أو عودتهم الي منازلهم بالتحايل بكتابة عناوين وهمية ومعلومات مغلوطة حتي أن بعضهم وصلت مدة إقامته بالمستشفيات إلي ما يقرب من05 سنة. هذه المشاكل كان يجب أن تنال اهتمام مؤسسات المجتمع المدني سواء بالإسهام في تقديم الدعم والخدمات أو البحث عن حقوق بأمراض نفسية أو بالمشاركة في صياغة تعديلات القانون141 الصادر عام1944 أي منذ ما يقرب من66 سنة حيث لم يكن هناك علاج للأمراض النفسية سوي احتجاز المرضي بالمستشفيات أي مجرد احتجازهم وايوائهم حتي منتصف القرن العشرين عندما تم اكتشاف أدوية وعقاقير لهذه الأمراض إلي جانب العلاج السلوكي والنفسي, وهذه العلاقات حولت الأمراض النفسية إلي أمراض قابلة للشفاء, وفي أسوأ الأحوال قد يحتاج المريض الي علاج مستمر مثله مثل مريض السكر والضغط نظرا لأن العلاج عند صدور القانون القديم كان إيوائيا, فكان النص علي انشاء مجلس مراقبة الأمراض العقلية وهو جهة تراقب دخول المريض المستشفي وتوافق علي احتجازه بها لمدة سنة يمكن أن تمتد لسنتين ثم ثلاث ثم خمس سنوات, ونظرا لظهور العلاجات الدوائية والسلوكية وتطورها راعي القانون الجديد أن المريض يمكن علاجه خلال أسابيع أو شهور, لذا استبدل تلك الجهة الرقابية بالمجلس القومي للصحة النفسية والمجالس الإقليمية التي يتم إبلاغها بدخول المريض للمستشفي خلال24 ساعة, وعلي المجلس الفصل في الموضوع والرد خلال ستة أيام, بدلا من الرد خلال شهر كما كان في القانون القديم. واذا رأي الطبيب استمرار احتجاز المريض فيكون الاحتجاز لمدة شهر ثم ثلاثة أشهر ثم ستة أشهر ثم ستة أشهر أخري. كما استحدث القانون الجديد بابا كاملا يحدد الخدمة التي تقدم للمريض وبابا آخر عن حقوق المريض, كما نص علي توفير الموارد المالية لتفعيل القانون وإنشاء صندوق للصحة النفسية. ولأن المريض النفسي هو المريض الوحيد الذي يمكن للطبيب احتجازه بالمستشفي رغما عنه لذا حرص القانون علي مراعاة جميع الأطراف فأعطي للطبيب سلطة إجبار المريض علي دخول المستشفي ولكنه وضع ضوابط لهذه السلطة. ومن أهم مزايا القانون الجديد أنه نص علي قائمة بحقوق المريض النفسي داخل المنشآت وأوجب الالتزام بها ونص علي عقوبات في حالة مخالفتها واستحدث لجنة لرعاية حقوق المرضي بكل منشأة كما نص علي مشاركة المجتمع المدني فيها, ومن هذه الحقوق الحق في العلاج والرعاية الصحية الجيدة وفي ظروف معيشية لائقة, والحق في الحماية من سوء المعاملة ومن الاستغلال بأي شكل من الأشكال والحق في سرية المعلومات الخاصة بالمرضي وفي الخصوصية والموافقة علي العلاج وتلقي المريض للمعلومات المتعلقة بحالته وأيضا حقه في الاتصال بالعالم الخارجي وفي التظلم من أي من الاجراءات التي تتخذ حياله. هذا عن المريض النفسي وضوابط دخوله المستشفي وكيفية علاجه, فماذا عن المدمن الذي يرتكب جريمة ويتم الدفاع عنه بحجة أنه كان تحت تأثير المخدرات. أجاب د. علاء: رغم أن الإدمان يعتبر مرضا نفسيا إلا أنه يعفي الشخص من المسئولية الجنائية ويحاسبه عن جرائمه كأي شخص آخر ما لم يتسبب الإدمان في وجود مرض نفسي آخر كالزهايمر وغيره من الأمراض التي قد تعفي من المسئولية الجنائية. كان هذا هو رأي د. علاء بشأن القانون وتفسيره لبعض تعديلاته فماذا بشأن مشاكل المستشفي الذي يتولي مسئولية رئاسة مجلس ادارته؟ قال ان مستشفي العباسية يقدم خدماته بالمجان لأكثر من60% من المرضي, أما النسبة الباقية فيعالجون بأجر, وهذا الأجر يعد جزءا من موارد المستشفي الي جانب التبرعات المقدمة لصندوق تحسين الخدمة وبعض المخصصات المقررة للمستشفي, غير أن هذه الموارد لا تكفي نظرا لضخامة عدد المرضي وارتفاع تكاليف علاجهم. الي جانب ذلك هناك مشكلات أخري مثل نقص العمالة بالمستشفي مقارنة بالمعدلات العالمية وتدني أجور العاملين مما يدفعهم للحصول علي إجازات لمدد طويلة ويظلون محسوبين علي قوة المستشفي ولا يجوز تعيين بديل لهم لأنهم يحجزون وظائفهم. كما أن المستشفي أدخل أنشطة أخري لاكساب المهارات مثل تصفيف الشعر أو الصناعات التكميلية لبعض المنتجات, وهنا يشعر المريض بالاحباط اذا لم يحصل علي عائد لجهده مثل غيره ممن يقدمون أعمالا إنتاجية. وهنا نعود لبداية المخاوف من عدم تفعيل القانون لعدم وجود مخصصات مالية, يمكن الصرف منها بمرونة علي ما يعود بالنفع علي المرضي مع وجود ضوابط لهذا الإنفاق. ويقول فايز عبدالحميد مدير إداري مستشفي جمال ماضي أبوالعزابم بالعياط نحن مستشفي وجمعية أهلية تعمل في خدمة المجتمع الريفي تقوم علي دراسة المشكلات الخاصة به وتحاول وضع حلول لها في حدود الإمكانيات المتاحة للجمعية والعمل علي الاتصال بالهيئات الرسمية والأهلية لمساعدة أبناء المنطقة والمناطق المجاورة. ويقول الدكتور محمد جمال ماضي أبوالعزايم استشاري الأمراض النفسية والعصبية: المشكلة الحقيقية أن تسيطر علي المجتمع أفكار الخرافات والدجل والشعوذة ومن هنا تتأخر حالة المريض تماما ونبدأ أولا في علاج أخطاء الآخرين وتكون حالة المريض تدهورت تماما ولكن نقوم بعلاج كل حسب حالته المرضية, وبالنسبة للموارد المادية فهي ذاتية بالإضافة إلي التبرعات.