تحية من عدن لأرض الكنانة: لا يمكن الحديث عن ثورة شعب ما أو حركات التحرر الوطنية في أي بلد عربي كان أو غير عربي، في حقبتي الخمسينيات والستينيات، دون الإشارة إلى مصر وزعيمها الراحل جمال عبد الناصر. ففي اليمن، لعبد الناصر مقام عال محفور في وجدان كل يمني، لما لمصر العروبة من مواقف بطولية و دور عظيم في تحرير جنوب اليمن والقضاء على بقايا الملكية الإمامية الكهنوتية في شماله. وهكذا هي مصر التي لم ولن تتمكن قوى الشر، وإن اجتمعت، على إبهاث أو إضعاف دورها الوطني القومي الأممي عبر التاريخ.
كان الزعيم الخالد عبد الناصر وضع نصب عينيه قضية الشعب اليمني وحث حركات التحرر الوطنية العالمية إلى الوقوف معه ضد قوى الشر الاستعمارية في جنوب اليمن والقضاء على فلول الإمامة الكهنوتي والملكية في شماله. وكانت مصر العروبة أرسلت قواتها العسكرية إلى صنعاء بقوام (70000) جندي مصري خلال خمس سنوات (1962م 1967م)، لإزاحة بقايا كابوس الملكية الكهنوتية الجاثم على صدر الشعب قروناً طويلة، حتى بعد تحرره من الإمام ودك قصر البشائر في صنعاء بدبابة جيش الضباط اليمنيين الأحرار في 26 سبتمبر 1962م بقيادة عبد الله السلال وعلي عبد المغني وغيرهما من الثوار.
ويسجل التاريخ صرخة القائد العربي الأممي جمال عبد الناصر التي أطلقها مدوية من تعز، في اليمن، في 6 أبريل 1964م في وجه الاستعمار البريطاني في الجنوب العربي قائلاً له: "احمل عصاك وارحل عن الجنوب العربي". وكان للدور البارز الذي لعبته مصر عبد الناصر، حينها، في دعم الحركة الوطنية التحررية الجنوبية في عدن نتائجه البارزة التي سُجلت في جبين تاريخ الحركة الوطنية اليمنية، عموماً والجنوبية، خصوصاً، إذ لم يقتصر الدعم بالسلاح ولا في تدريب عناصر المقاومة والفدائيين، فحسب، بل فتح الإعلام المصري منابره ليخصص برامج خاصة توعوية سياسية وتحريضية ضد الاحتلال البريطاني وشحذت همم أبناء الجنوب العربي لمقاومته والتصدي لمخططاته الاستعمارية التوسعية. وكانت إذاعة "صوت العرب" المنبر الإعلامي البارز الذي من خلاله بُثت الأغاني الثورية الوطنية، الحماسية، العدنية والمصرية على حد سواء، ولا ننسى أغنية (ردفان) بصوت الفنانة الكبيرة فايدة كامل وأغاني كبار الفنانين المصريين أمثال محمد فوزي، نجاة الصغيرة، محمد قنديل، ماهر العطار، محرم فؤاد ومحمد عبد المطلب وغيرهم. وما زالت أغنية "جنة عدن يا جنة" للفنان الشعبي الكبير شفيق جلال تذاع حتى اليوم وتردد على حناجر الشباب في تظاهراتهم وتجمعاتهم. وقد زار الفنان شفيق جلال مدينة عدن عام 1964م ومعه الفنان محرم فؤاد وعدد من الفنانين المصريين. وكان فريق فني مصري بقيادة الفنان الكبير فريد الأطرش وفرقته الموسيقية سبقهم بزيارة عدن عام 1954م (سنأتي على ذكرها لاحقاً).
كانت "صوت العرب" بمثابة صوت الشعب الجنوبي الحر ولعبت دوراً عظيماً في حث كثير من الشباب على الانخراط في ميدان النضال الثوري الوطني التحرري. ومن ينسى صوت المذيع الكبير أحمد سعيد، رئيس إذاعة صوت العرب وأحد مؤسسيها، وهو يتحدث إلى أبناء الجنوب العربي المحتل نافحاً فيهم، من خلال منبره الإذاعي، روح النضال والاستماتة من أجل استقلال الجنوب؟
العلاقة المتبادلة بين مصر وعدن، ضاربة جذورها في التاريخ؛ فقد بدأت في عهد الملكة المصرية "حتشبسوت" (خامس ملوك الأسرة الثامنة عشر الفرعونية) التي شهدت مصر القديمة في أيامها حياة مرفهة وانتعاشاً اقتصادياً، إذ اهتمت الملكة بالتبادل التجاري مع البلدان المجاورة وفتحت قنوات تواصل معها، خاصة مع جنوبالبحر الأحمر؛ فكانت أرض (بلاد بونت) أي بلاد أرض اللبان ويقال أنها (الصومال) فيما يرجعها كثير من المؤرخين والرحالة والمستشرقين إلى (عدن) والحقيقة أن مصر ربطتها العلاقات التجارية، آنذاك، مع البلدين. وقد ذُكرت عدن في التاريخ القديم بأنها أرض البخور والعطور واللبان والتوابل. ولأن عدن كانت ميناءً طبيعياً قديماً يربو عمره عن (خمسة ألاف عام) ومحطة تجارية بين مصر والهند وصور اللبنانية، فقد انتعشت فيها التجارة التي ألقت بظلالها على حياة الناس، حتى قيل أن من يريد الرزق الوفير عليه بعدن. لذلك كانت مدينة يستوطنها كل من يقبل عليها من كل أصقاع الأرض، بحثاً عن العيش الكريم والعمل ووفرة المال ولذلك سميت ب (أم المساكين) و(الأرض السعيدة) وغيرها من الصفات التي تعكس أهمية المدينة عبر التاريخ.
نجحت الملكة الفرعونية حتشبسوت بعلاقتها التجارية مع جنوبالبحر الأحمر، بإرسال سفنها إلى ميناء عدن، محملة بالهدايا والبضائع المصرية، كالبردى والكتان وغير ذلك، لتعود محملة بالتوابل والعطور والبخور واللبان الذي كان يستخدمه المصريون بكثرة في معابدهم وبيوتهم إعتقاداً منهم بأن دخانه يطرد الأرواح الشريرة. وفي إحدى هذه الرحلات التجارية حمَل أهالي عدن إحدى السفن الفرعونية، هدايا للمصريين بقيادة ملكتهم، منها ما هو موجود في المتحف الفرعوني في القاهرة.
وتوالت الأحداث وتبدل الزمن وشهدت مصر تغيرات عدة في شكل النظام السياسي وكذلك شهدت عدن. ففي عهد الدولة الفاطمية في مصر، بعد فتحها ونقل مركز حكمهم إليها من المغرب عام 969م، امتدت نفوذها إلى عدن ومحاولة السيطرة على مينائها باعتباره همزة الوصل بين مشارق الأرض ومغاربها. ولكن بسقوط الفاطميين على يد صلاح الدين الأيوبي وتأسيس الدولة الأيوبية، تغير الوضع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي إلى الأفضل، امتداداً لما كان يُعتمل في مصر الكنانة.
ومضى الزمن في تقلباته السياسية، ليأتي منتصف القرن العشرين وتشهد العلاقة المصرية اليمنية تطوراً عميقاً ووطيداً في مختلف الصعد الحياتية. لعل أبرز هذه العلاقات كانت في الجانب السياسي والعسكري والثقافي.
من العوامل التي أسهمت في تطوير الوعي السياسي والثقافي الجمعي في عدن ، هبوب رياح الثقافات من خارجها، وبالذات الهندية والمصرية. وكان أبناء عدن يقبلون عليهما بحب وشغف كبيرين، وذلك من خلال المطبوعات الصحفية التخصصية التي كانت تملأ بعض المكتبات مثل مجلة المصور وحواء و روز اليوسف وصباح الخير وكذلك من خلال الأفلام السينمائية. فالسينما بدأت بالظهور في مدينة عدن في ثلاثينيات القرن العشرين بمبادرة من بعض أبنائها وعدد من أبناء الجاليات الأجنبية المقتدرين، وكانت في بداياتها الأولى تعرض الأفلام الهندية والإنجليزية، حتى منتصف الأربعينيات، حين بدأت توفد الأفلام المصرية. وقد بلغ عدد دور العرض السينمائي في عدن وحدها أحد عشرة دار عرض بحسب المواصفات المعمارية المطابقة لدور العرض السينمائي في البلدان العربية والأجنبية.
تأثر عدد من الهواة والمهتمين بالفن السينمائي، بالأفلام المصرية والهندية، وقد شهدت عدن إرهاصات الفن السينمائي بعد إنشاء معهد لهواة التصوير الفوتوغرافي والسينمائي في عدن عام 1950م وضم عدداً قليلاً من المصورين المحترفين والهواة، وكانت تباع فيه كاميرات التصوير الفوتوغرافي بأسعار زهيدة. وظهرت بعض المبادرات الذاتية الفردية مثل محاولة المصور الرائد السينمائي العدني جعفر محمد علي في تصوير وتسجيل، سراً، المظاهرات الشعبية التي كانت تخرج تنديداً بالوجود الاستعماري البريطاني، إبان حرب التحرير. وكان يكشف الممارسات الفجة لجيش الاحتلال ضد المواطنين. وفي مستهل الستينيات تمكن من كتابة قصة لأول فيلم روائي عدني بعنوان (من الكوخ إلى القصر) ومن إنتاج شركة أفلام الجنوب العربي. وقام بتصويره وإخراجه، مستخدماً آلة تصوير بحجم (16) ملم. وقد نجح الفيلم نجاحاً كبيراً، حيث عُرض في دور السينما بعدن ولاقى إقبالاً كبيراً، باعتباره أول فيلم روائي في اليمن والجزيرة العربية يقوم ببطولته عدد من هواة التمثيل من الجنسين من أبناء عدن. إلا أن هذا الرائد لم يتمكن من تكرار تجربته بعد أن خسر على فيلمه كل ما كان يدخره من ماله الخاص.
إلا أن الرائد السينمائي جعفر محمد علي فتح المجال للمبدعين الآخرين؛ فبدأ عدد من المصورين بتصوير أهم الأحداث المهمة والمنشآت التي أقيمت في عدن؛ فقد تم تصوير المراحل الأولى من إنشاء مصافي عدن والتخطيط لبناء منطقة عدن الصغرى (البريقة)، حيث تابع المصور ناصر يسلم العولقي هذا الحدث الكبير بعدسة كاميرته وذلك في أول فيلم سينمائي وثائقي في منتصف الخمسينيات وما زال يتم عرضه، بين الفينة والأخرى، على بعض القنوات الفضائية اليمنية، بعد أن تم نهب وإفراغ إرشيف تليفزيون عدن من كثير من محتوياته في مبناه الأساسي في مدينة التواهي في الحرب الأولى على الجنوب عام 1994م وأثناء الحرب الأخيرة عليه عام 2015م وإغلاق باب مبنى الإذاعة والتلفزيون في عدن بالطوب والإسمنت.
ولا ننسى في تاريخ التصوير الفوتوغرافي والسينمائي المصور الكبير المرحوم أحمد الصليلي الذي كان من الرواد الأوائل في فن التصوير السينمائي وله عدة أعمال سينمائية، لعل أهمها فيلم تسجيلي عن الإمام أحمد وتجواله في صنعاء وزياراته الداخلية والخارجية؛ حيث رافق المصور أحمد الصليلي الإمام أحمد في زياراته إلى عدن وألمانيا وايطاليا. وكانت تلك الأفلام تصور بمقاس (8) مم. كما صور بكاميرته المتواضعة زيارة الملكة إليزابيث إلى عدن عام 1954م.