عدن.. مدينة صغير(شبه جزيرة) تبلغ مساحتها (200) كيلو متر مربع، أطلق عليها المستعمر البريطاني، المصطلح الإنجليزي “Crater” بعد السيطرة على مينائها التاريخي (صيرة) واحتلالها في 19 يناير 1839م، لوقوعها على فوهة بركان خامد منذ أكثر من ستة آلاف سنة. تقع عدن في الجنوب الغربي من شبه الجزيرة العربية وتطل على خليج عدن وبحر العرب.
رغم صغر المدينة إلا أنها ألهبت حماس الشعراء والفنانين؛ فيما كتب عنها الكثير من الكتّاب والمؤرخين والرحالة والمستشرقين. وهي موطن مملكة أوسان القديمة. وقد ذُكرت في الكتب المقدسة والأناجيل المختلفة، لعل أبرزها سفر النبي حزقيال في العهد القديم، كإحدى المدن ذات العلاقة التجارية مع صور اللبنانية ومصر والهند، بحكم موقعها الجغرافي الذي جعلها ذات شأن مهم في طريق التجارة العالمية القديم. وكانت تلك الكتابات والمدونات تؤكد على عبقرية إنسان عدن الذي صنع تاريخ المدينة وموروثها الثقافي، رغم محاولة البعض طمسه وتشويهه، في مختلف المنعطفات التاريخة والسياسية، بهدف القضاء على الهوية العدنية، المتميزة عن سائر المدن في اليمن والجزيرة العربية وكثير من المدن العربية وغير العربية، لكنها أبت إلا أن تبقى حاضنة لإبداعات عبقرية الإنسان العدني الوطني، المحب للسلام والأمان والتعايش مع الديانات والعقائد والأجناس البشرية المختلفة على مر الزمن. وما الصهاريج وكهوف عدن، المعروفة بكهوف "البوميس"، الكائنة في هضبة عدن وقلعة صيرة والحصون المتناثرة على قمم الجبال المحيطة بالمدينة ومنارة عدن والمعابد الدينية وغيرها من المعالم التاريخية، إلا شواهد جلية لا تنكرها عينٌ قط.
ارتبطت عدن مع المصريين القدامى، أثناء حكم الملكة الفرعونية "حتشبسوت"، قبل احتلال الرومان لمصر، بعلاقة تجارية وطيدة. ثم جاءت حملة الرومان من مصر إلى اليمن للغزو والاحتلال عام 24 ق. م، لكنها باءت بالفشل الذريع وعادت أدراجها – بعد تكبدها الخسائر الفادحة – إلى مصر، تجر وراءها أذيال الخيبة. وكذلك كان مصير البرتغاليين والهولنديين والإيطاليين والعثمانيين.
نجحت بريطانيا العظمى، بالعدة والعتاد، في احتلال عدن ولكنها لم تنجح في إخماد ثورة أبناء عدن ضدها ورفضهم للاحتلال الغاشم، وساندهم في تلك الثورة أبناء الجنوب العربي، كافة، من أقصاه إلى أقصاه حتى الخلاص والإعلان عن الاستقلال الوطني الناجز في 30نوفمبر 1967م وتأسيس ثاني جمهورية في الجزيرة العربية، بعد الجمهورية اليمنية في شمال اليمن، وسميت ب (جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية).
لقد أحكمت السلطات البريطانية قبضتها على المستعمرة عدن، منذ بداية ثلاثينيات القرن العشرين وقسّمت جنوب اليمن (البالغ مساحته (360.133) كيلو متر مربع) إلى ولايات وإمارات عدة، ضمن ما أسمتها ب
(المحميات الشرقية والمحميات الغربية). ففي الوقت الذي كانت عدن تدار من قبل وزارة المستعمرات البريطانية، بعد انفصالها عن الإدارة الهندية عام 1937م، كانت المحميات تدار من قبل مستشارين بريطانيين تقوم بتعيينهم الوزارة ذاتها. وكان هؤلاء المستشارون هم الذين يديرون أمور البلاد والعباد، إذ لم يكن بإمكان الأمراء والسلاطين، في هذه الإمارات والسلطنات، إصدار الأوامر والأحكام، إلا بعد الرجوع إلى المستشارين. وقد تم توقيع أولى المعاهدات الاستشارية مع السلطان القعيطي في المحمية الشرقية (حضرموت) عام 1937م، وآخرها مع سلطان (لحج) العبدلي عام 1952م.
شهدت عدن تطوراً ملحوظاً في مختلف جوانب الحياة بسبب إقدام السلطات الاستعمارية على فتح أبواب الهجرة إليها وذلك من شتى بلدان (الكومنولث) البريطاني، فقدَمت إلى المستعمرة كفاءات في مختلف التخصصات المهنية وخاصة من الهند. وبدأت عدن تشهد حركة دؤوبة في بناء وتعمير العديد من المنشآت الاقتصادية والتعليمية والصحية وشق الطرقات واستحداث مدن أخرى، بغرض توسعة المدينة. وقد وُجدت المنشآت الإدارية والخدمية، لخدمة الضباط الإنجليز والأجانب، المنتفعين من تجارتهم في المدينة وأسهم ذلك الإعمار على تميز وضع عدن وصبغها بالطابع الأوروبي والهندي في التخطيط العمراني، بدرجة أساسية، ذلك لأن من كان يقوم بالتخطيط والتصميم العمراني مهندسون هنود وإنجليز.
بعد عشر سنوات من احتلالها لعدن، غيرت السلطات الاستعمارية البريطانية موقع ميناء المدينة القديم (صيرة)، لتنقله إلى قرية صغيرة، تقع في الاتجاه الغربي من عدن القديمة وكانت تسمى (الضواحي)، لأنها واسعة ويغمرها البحر من كل اتجاه وبها عدد قليل من السكان الذين يشتغلون بصيد السمك. وبتحويل الميناء من عدن القديمة إلى (ضواحي) عدن والتي حُرّفت على اللسان غير العربي، آنذاك، لتُنطق ب (التواهي) وما زالت تسمى كذلك حتى اليوم، انتقل مقر سكن قائد الحملة العسكرية على عدن، الكابتن (هينس)، من عدن القديمة إلى المقر الجديد في (التواهي) والتي أطلقت عليها السلطات البريطانية فيما بعد اسم (Steamer Point) وتعني بالترجمة الحرفية (نقطة البواخر) أي أن المنطقة كانت محطة إلتقاء أو رسو السفن والبواخر القادمة من موانئ بلدان أخرى. وقد ترافق بناء الميناء في (التواهي) مع إعلان عَدَن منطقة حرة في عام 1850م (وهي أول منطقة حرة في الشرق الأوسط) بعد اتساع النشاط التجاري وكثافة البواخر الراسية في الميناء الجديد وتوفير الخدمات، فاعتبر ثاني ميناء عالمي بعد ميناء نيويورك في تزويد السفن بالوقود. كما تم بناء ميناءٍ آخر حديث في مدينة (المعلا) في عام 1855م. وهي أيضاً كانت قرية صغيرة في ضواحي عدن، تغمرها المياه من كل جانب، وكان اسمها الحقيقي (مع الله)، حيث كان الصيادون، وهم سكانها الأصليون، يذهبون بمراكبهم باتجاه الشرق والغرب من البحر العربي، للاصطياد؛ فكانت أسرهم تستودعهم الله في بحثهم الشاق عن الرزق.
بُنيت مدينة التواهي وانتشرت فيها المنشآت السياحية والمتنزهات؛ فجعلتها السلطات البريطانية قطعة من مدينة لندن وقامت ببناء ساعة مماثلة لساعة (بج بن) اللندنية وتم تشييدها عام 1890م على مرتفع جبل. يبلغ قطر الساعة حوالي متر، من الاربع الجهات وعرضها 1.5 وطولها 22 متراً. وأسهمت النشاطات التجارية الجديدة في زيادة عدد سكان التواهي وعدن القديمة أيضاً، حيث تم استقدام العمالة الأجنبية إلى المستعمرة
التي انتعشت فيها الحياة الاقتصادية؛ فعمتها النشاطات التجارية التي كانت تمارسها الشركات العالمية الأجنبية المختلفة، ك شركات (شل) النفطية، (شركة أنطوني بيس)، (شركة لوك توماس)، (شركة الملاحة الدولية)، (شركة قهوجي دشنهاو)، (شركة موريس رياس)، (شركة باردي وبوفار وشركاؤه)، (شركة هوارد وإخوانه)، (شركة استخراج الملح الإيطالية) وغيرها من الشركات والبنوك التي أُنشئت فيما بعد. وبدأت نشاطات الاستيراد والتصدير من وإلى عدن لمختلف المواد الاستهلاكية، مما كان من الضرورة بمكان توفير الخدمات المختلفة لتذليل الصعوبات أمام تلك النشاطات التجارية وتسهيل الإقامة لمالكي الشركات وموظفيها الأجانب في المستعمرة؛ فأُدخلت الى عدن خدمة محطة البرق والتلغراف عام 1870م وفي عام 1867م كان أُنشئ أول فنار للسفن. وفي عام 1904م تم تشغيل نظام الصرف الصحي وإعداد خطة لتوفير مياه الشرب بواسطة الصنابير في المنشآت السكنية والخدمية المختلفة. وفي عام 1926م شهدت عدن إنشاء أول محطة كهرباء في شبة الجزيرة العربية، وكانت المحطة تعمل بقوة (3) ميجاوات فقط ، حسب احتياج السكان، آنذاك، لتصل قدرتها في عام 1965م إلى (67) ميجاوات. وجدير بالذكر أن مالكي الشركات المذكورة سلفاً وغيرهم من المسلمين والمسيحيين واليهود الذين أسهموا، كذلك، إلى حد كبير، من خلال مبادراتهم التطوعية، أحياناً، في تشييد المساجد والمعابد والكنائس المختلفة والمدارس الخاصة بالجاليات الأجنبية، بعد ازدياد عددهم. كما أُنشئت مطابع لطباعة المستندات التجارية وبعض المطبوعات الأخرى، كالنشرات التجارية والإعلانات وغيرها من الأعمال الطباعية البسيطة.