زيارة تاريخية ملكية لعدن: عاشت عدن أوج ازدهارها الاقتصادي بعد الحرب العالمية الثانية، حين انتصرت بريطانيا وحلفاؤها على ألمانيا النازية وحلفائها. فقد تم تشغيل مينائي عدن في مدينتي (التواهي) و (المعلا) بوتيرة أكبر مما كانت عليه قبل الحرب. فارتفع عدد السفن التجارية المحملة بمختلف البضائع والمؤن، خاصة وأن عدن قد تم الإعلان عنها، كمنطقة حرة عام 1850م وبناء فنار خليج الفيل في الساحل الذهبي في 1911م لإرشاد السفن في خليج عدن وتعميق الميناء عام 1930م، لاستقبال السفن الكبيرة، وكان تم قبل ذلك افتتاح البوابة الرئيسية للميناء والرصيف السياحي في 1919م والذي أُطلق عليه (رصيف أمير ويلز) تيمناً بزيارة الملك إدوارد، والد الملك جورج الخامس لعدن، في نهاية نوفمبر 1911م، عندما كان أميراً لويلز. كان الميناء يكتظ بأعداد هائلة من السياح الأجانب القادمين من البلدان الأوروبية المختلفة والباحثين عن الدفئ في مناخ عدن، لاسيما في فصل الشتاء، ويحرص السياح على زيارة المناطق والمواقع التاريخية في المدينة واقتناء التحف والهدايا، مما تنتجه الأيادي المبدعة من الفنانين والحرفيين العدنيين، من المِحال التي تخصصت في هذا الشأن، لخدمة زوار عدن، وكذلك لشراء الكتب الأدبية والعلمية باللغة الإنجليزية من المكتبات الشهيرة، آنذاك ، في عدن. وقد أضحت عدن، طوال تلك الفترة، حتى منتصف الستينيات، قِبلة التجار وأصحاب رؤوس الأموال ليستثمروا أموالهم في مشاريع تجارية عدة، لخدمة رجال الأعمال والضباط الإنجليز وأسرهم والسياح؛ فأُنشئت الفنادق الكبيرة والمتوسطة في مدينة (التواهي) والنوادي والمقاهي ودور العرض السينمائي والمتنزهات والحدائق. وكان أول فندق متواضع في هذه المدينة السياحية، أنشأه "توان سويل" وهو تاجر فرنسي عام 1867م، ثم تلاه عدد من الفنادق التي بناها آخرون من جنسيات أخرى. إلا أن فندق (كريسنت) أول الفنادق الكبيرة والشهيرة في التواهي على مستوى الجزيرة العربية والذي شُيد عام 1930م. وقد كان في الأساس منزلاً خاصاً لرجل الأعمال العدني المعروف (عبد الكريم بازرعة) حتى عام 1928م، حيث باعه لرجل الأعمال الفرنسي الشهير (أنطوني بس) الذي أضاف مبنىً ثانٍ بجانبه، على ذات نمط البيت عام 1930م وخصصه فندقاً يؤمه رجال الأعمال والسياح والشخصيات الهامة. وقد زادت شهرته بعد نزول الملكة "إليزابيث" الثانية وزوجها الأمير "فيليب" في أحد أجنحته، لقضاء شهر العسل في نهاية أبريل من عام 1954م. ومنذ ذلك اليوم سمي بالجناح الملكي، وظل مزاراً وشاهداً على تلك الزيارة التاريخية حتى ساعة تدمير الفندق بقذيفة صاروخية في منتصف عام 2015م، إبان الحرب ضد الحوثيين الذين احتلوا المدينة لمدة أربعة أشهر وحولوا الفندق إلى ثكنة عسكرية، كباقي المنشآت الحكومية الأخرى في عدن، ليصبح الفندق أثراً بعد عين، كما دُمرت بوابة الميناء ورصيف الأمير ويلز، ليسدل الستار عن أحد المعالم التاريخية في عدن، أما مقتنيات الملكة التي تركتها في جناحها الملكي، للذكرى، فقد كانت تتكون من (جهاز اتصال، راديو خشبي صغير، كرسي وطاولة صغيرة ملكيَين ولوحة معلقة على الحائط أعلى سريرها الملكي وغيرها من المقتنيات الصغيرة)؛ فقد شوهدت معروضة للبيع في إحدى حواري مدينة التواهي من قبل أناس لم يقرأوا يوماً عن تاريخ عدن ولم يعرفوا أن الملكة عندما طاب لها المقام في عدن التي أحبتها وراقها موقع الفندق في الجهة المقابلة للبحر، قررت إطالة فترة بقائها في المدينة إلى ستين يوماً. وقد كتبت الملكة الكثير في مذكراتها عن أيامها تلك، في عدن وعن صوت ساعة (بيج بن) الصغرى، الواقفة بشموخ على تلة في التواهي، منذ مائة عام، والتي تذكّرها بصوت ساعة (بيج بن) اللندنية. وكان ذلك الحدث الكبير يُعد من الأحداث العظيمة التي شهدتها مدينة التواهي، خاصة، وعدن، عامة، لأن الملكة فضّلت عدن عن سائر المدن البريطانية وبلدان الكمنولث، لتقضي أجمل أيامها في ربوعها. وكانت تلك الزيارة، الأولى في حياة الملكة إلى خارج بريطانيا، بعد تتويجها، عقب وفاة والدها الملك جورج السادس عام 1952م. ومن ضمن برنامج زيارة الملكة لعدن، وضع حجر الأساس لمستشفى الملكة (سُمي باسمها حتى نهاية الستينيات ليطلق عليه اسم مستشفى الجمهورية). أُفتتح المستشفى والذي صممه ثلاثة من أبرز المهندسين البريطانيين، في أغسطس 1958م. وما يميز تصميم المستشفى أنه يتخذ شكلاً هندسياً فريداً لا مثيل له. وكان المستشفى يضاهي أفضل المستشفيات العالمية، في تلك الفترة، في سعته واحتوائه على مبانٍ ملحقة به وأقسام مختلفة وتميُز في الخدمات الطبية الراقية والرفيعة المستوى بأسعار رمزية ومجانية. ويُعد أول مستشفى أُدخل فيه نظام المكيفات المركزية على مستوى الجزيرة العربية والخليج. كما شمل المستشفى سكناً للأطباء والممرضين ومساعديهم القادمين من لندن ومن بلدان الكمنولث، وسكناً لعمال النظافة أيضاً. وقد تم ابتعاث عدد من الطلاب البارزين في مدارس عدن لمواصلة التعليم في بريطانيا والتخصص في مجال الطب والتمريض للعودة إلى عدن ورفد المستشفى بالكادر الصحي المحلي إلى جانب الأجنبي. وشهادة للتاريخ؛ فإن المستشفى لعب دوراً أساسياً في دعم العديد من الكوادر الطبية الدارسين في جامعة عدن، منذ نهاية السبعينيات وحتى اليوم، ولذلك سمي ب (مستشفى الجمهورية التعليمي) منذ إلتحاق الدفعة الأولى من طلاب كلية الطب بالجامعة في منتصف السبعينيات، إذ فتح المستشفى أقسامه للتطبيق العملي لهم أثناء الدراسة. وفي ذات الزيارة الملكية، لعدن، افتتحت الملكة مصافي الزيت البريطانية في (البريقة) أو(عدن الصغرى) كما قامت، أيضاً، بتكريم عدد من الشخصيات العدنية البارزة ومنحهم أوسمة الإمبراطورية العظمى، في احتفال رسمي مهيب. ملح بحر عدن: ألقى التطور الاقتصادي ظلاله على حياة كثير من الناس في عدن، وفتحت مجالات الأعمال التجارية والخدمية المختلفة، وقد شهدت المدينة ظهور عدد من الصناعات الخفيفة؛ فكانت صناعة الملح ثاني أكبر منشأ اقتصادي في عدن، بعد الميناء. أنشئت أول شركة للملح في عدن عام 1886م وهي شركة الملح الايطالية ولا زالت مباني تلك الشركة قائمة حتى اليوم .وفي العام 1908 أنشئت الشركة الهنديةالعدنية للملح. ثم تلى ذلك إنشاء الشركة المتحدة لأعمال الملح والصناعات المحدودة في العام 1923م. وفي العام نفسه أنشئت شركة الملح الفارسي. وفي منتصف الستينيات كانت أرض عدن تمور تحت أقدام الاحتلال البريطاني؛ فصفت كثير من الشركات الأجنبية أعمالها التجارية وشلت حركة الاستيراد والتصدير ومن ضمنها شركات الملح والبنوك الأجنبية المختلفة. وبعد نيل الاستقلال الوطني أقدمت السلطة السياسية الوطنية عام 1970م على إنشاء المؤسسة العامة للملح. وقد كانت هذه المؤسسة هي بداية الاهتمام بصناعة الملح وتطوير الطاقة الإنتاجية، حتى وصلت إلى 150 ألف طن في السنة. ويعتبر ملح عدن من أفضل أنواع الملح في العالم، لأنه يتميز بارتفاع ملوحته وخلوه من التلوث وقد اكتسب شهرة عالمية وحاز على العديد من الجوائز الدولية. وهج التنوير في عدن: كان لظهور المطبعة في عدن ضرورة حتمية لتسيير وتسهيل المعاملات التجارية؛ فظهرت المطبعة عام 1853م من قبل السلطات البريطانية والتي جلبتها من الهند، ومن تم اصبح لعدد من التجار الأجانب مطابع تجارية؛ فتعددت تلك المطابع ليأتي العام 1900م شاهداً على بداية ظهور العمل الصحفي على يد الكابتن (بيل) الذي كان يشغل منصب مساعد المقيم السياسي في عدن. وقد أصدر (بيل) العدد الأول من جريدة (عدن الأسبوعية) في شهر اكتوبر، باللغة الإنجليزية، مكوناً من ثماني صفحات متنوعة ما بين الأخبار والمقالات والألعاب والنكات. وقد طُبعت في مطبعة (شركة هوارد وإخوانه) التي تأسست عام 1889م. إلا أن الجريدة لم ترقَ إلى مستوى الصحف المهنية، لذلك كانت أقرب إلى النشرة منها إلى الجريدة ولكنها كانت محاولة في خوض تجربة جديدة في المجتمع العدني الصغير. وبعد ستة أشهر توقفت الجريدة أو النشرة، بسبب مغادرة بيل لعدن بعد انتهاء مهمته الوظيفية، وأوكل إصدار النشرة لصديقه رجل الأعمال الإنجليزي (مستر موَري) ولكن لم يتمكن الأخير من مواصلة إصدار النشرة بسبب المتطلبات المالية لطباعتها، كما لم يكن لها رواج في السوق؛ فتوقفت بعد أشهر من الصدور. وبعد أربع عشرة سنة عاد بيل إلى عدن برتبة (ضابط سياسي أول) ليحيي مشروعه الصحفي من جديد باسم آخر وهو (البؤرة العدنية). إلا أنه، للمرة الثانية، لم يحالفه النجاح في الاستمرارية. وقد توالت بعدئذ التجارب في إصدار الصحف والمجلات بلغات أجنبية، منها أيضاً الهندية والفارسية ولكنها سرعان ما كانت تختفي بسبب اهتمامها فقط بالجاليات التي تتحدث بلغتها متجاهلة عامة الشعب؛ وعدم ملامستها لحياته، كما أن أخبار الحكومة والجيش كانت معظم ما تنشره تلك الإصدارات. لم تعرف عدن، خصوصاً، واليمن، عموماً، إصداراً صحفياً بمهنية عالية، إلا على يد رجل التنوير العدني محمد علي إبراهيم لقمان (المحامي) عندما أصدر جريدته الأسبوعية "فتاة الجزيرة" في الأول من يناير 1940م. ولأول مرة يقرأ المتلقي في عدن وعدد من المناطق اليمنية، جريدة ناطقة باللغة العربية وتمس حياة الناس وتناقش همومهم. لقد خاضت الجريدة نضالاً مستميتاً ضد الظلم والقهر الذي كان يمارس على الشعب في ظل الاحتلال البريطاني.