كما أشرت فى المقال السابق حول دور المجتمع المدنى كأحد أهم الفاعلين فى تيسير المواطنة داخل المجتمع من خلال أدوات مثل العدالة والتعددية، فهو يجب أن يتحرك بتوازن بين جميع الأطراف، من حيث علاقته بالدولة وعلاقته بالمواطنين مع مراعاة علاقة المواطنين بالدولة، حتى يؤدى دورًا فاعلًا فى حماية تفعيل القوانين وربطها بالواقع الاجتماعي. الروابط بالدولة القومية من أجل تيسير المواطنة، يجب على المجتمع المدنى أن يحافظ على الارتباط والتوازن فى علاقته بالدولة والدين؛ فالمواطنة لها صلة وثيقة بالدولة القومية التى هى من ثمار التحديث فى العالم العربي. كما أن المجتمع المدنى ليس معارضًا للدولة والدين، لكنه يرتبط بعلاقةٍ قويةٍ مع الدولة وكذلك الدين. لذلك فمن أجل تدعيم وتحفيز المواطنة يجب أن يكون المجتمع المدنى مستقلًّا عن الدولة، لكنه أيضًا متصل بصلة وثيقة معها. مثل هذه العلاقة تفترض وجود دولة قوية وكذلك مجتمع مدنى متماسك وصلب. رغم أن المواطنة هى نتاج للتفاعل بين المجتمع المدنى والديمقراطية، أو بمعنى آخر، هى نتيجة لديمقراطية المجتمع المدني، كما لو كانت جسرًا يتصل بالدولة. وهكذا، تصير المواطنة هى أداة اتزان يمكن أن تسهم فى تطوير العلاقة بين المواطنين والدولة. على سبيل المثال تعمل المنظمات غير الحكومية بين الجماهير والجماعات الفقيرة، وتعلم السكان كيف يتعاملون بشكل إيجابى مع مؤسسات الدولة لكى يحصلوا على خدماتهم ومصالحهم المستحقين لها. وبهذه الطريقة تتحرك الدولة مع المواطنين نحو تكوين احترام متبادل فيما بينهم. المواطنة هى تفاعل بين الناس والجغرافيا، وهى تتعلق بحقوق المواطنين وتتصل بالمكان المقيمين فيه. إنها العملية التى تدمج بين طبيعة الجغرافيا وبين التطور التاريخى للمكان. لقد كان أحد أهم الأسباب التى أدت إلى تراجع القومية العربية إنها وضعت مصالح الوحدة العربية فوق مصالح كل دولة بمفردها. لكن المواطنة تعزز من شرعية كلٍّ من المفهوم الإقليمى والوطني. ولا يمكن لأحدهما أن يحل محل الآخر. فكونك عربيًّا لا يقلل من وضعك كمصرى أو لبناني؛ لأن العروبة هى مفهوم شاملٌ لكل الأديان والثقافات والتواريخ. وهكذا يمكن تفهُّم المواطنة كمفهوم وطنى وإقليمي. وجدير بالذكر هنا أن اهتمامى لا يتعلق بتجريد المواطنة من الصفة القومية أو بعولمة المواطنة أو الترويج لمواطنة ما بعد القومية. فعلى الرغم أن هذه الأشكال للمواطنة مهمة، لكننى أعتقد أن المواطنة يجب أولا أن تحدد السياق السياسى الوطنى، لكى تمتد بجذورها فى هذا السياق، وبعد ذلك يمكن تطبيقها على المستويات الإقليمية والدولية. العلاقات المتبادَلة إذا كان المجتمع المدنى هو الأرضية التى يمكن للأفراد والجماعات من خلالها تنمية هوياتهم الخاصة ومهاراتهم وأدواتهم الإبداعية التى تمكِّنهم من تحقيق المساواة والعدالة والوجود المستمر، فإن المواطنة كمفهوم هى إعادة إنتاج لهذه العملية، ومنظمات المجتمع المدنى هى الأدوات التى تحقق المساواة والعدالة والوجود المستمر. ثمة علاقة لا غنى عنها بين المواطنة والديمقراطية؛ فالمواطنة ليست مفهومًا جامدًا، لكنها مرنةٌ، وهى تمتلك القدرة على التفاوض مع الدولة، كما أنها تنظم نفسها بطريقة تخدم مصالح المواطنين. أما الديمقراطية فهى توجد مع التعددية وهى بهذه الطريقة تثرى القيم والمفاهيم. فالولاء، على سبيل المثال، إذا ارتبط كمفهوم وكقيمة بفكرة ضيقة، فإنه سوف يتسم بأحادية الانتماء. ولكن الولاء فى السياق الديمقراطى يمكنه أن يعاد تنظيمه بطرق تدعم المفاهيم والقيم الجديدة. ومن هذا المنطلق، يتضح أن المواطنة، كمفهوم ديمقراطي، تؤكد التعددية التى هى ضرورة ملحة لتحقيق التعايش فى الشرق الأوسط. المجتمع المدنى والديمقراطية شريكان يسهمان فى تحقيق المواطنة التى تعد ثمرة لتفاعلهما معًا. كما أن فكرة الشمولية (inclusiveness) هى فكرة محورية فى هذا النموذج للتغيير؛ فالعروبة تمثل إطارًا ثقافيًّا أكبر من دين واحد. بل هى ثمرة تفاعل الأديان والثقافات والموروثات التاريخية الخاصة بالعالم العربي. هذا المفهوم الشامل للعروبة يمكن أن يسهم فى صياغة الهوية لكل من المسلمين والمسيحيين فى الوطن العربي. كما أن شمولية الديمقراطية وضرورة تطبيقها فى الحياة اليومية سوف تتيحان للديمقراطية أن تصير مكونًا من مكونات التغيير الاجتماعى والاقتصادى والثقافى والسياسي. كذا فإن التطبيق التعددى لهذا المفهوم يخلق مجتمعًا ديمقراطيًّا يستخدم مفهوم (الأقلية/ أغلبية) بطريقةٍ بالغة الدقة شديدة الشمولية. وهكذا نجد أن المجتمعات المدنية التى تتمتع بمؤسسات مستقلة وعلاقات جيدة مع سلطات الدولة سوف تؤدى إلى تنمية شاملة فى شتى المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية. ومن ثم، يمكن القول: إن الشمولية والتعددية والتنوع هى ثمار التفاعل بين الديمقراطية والمجتمع المدني، وهذا ما سوف تنتج عنه المواطنة.