من المصائب الكبري التي ابتلي بها قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات, أن الكثرة الغالبة من مسئوليه سواء داخل الحكومة أو خارجها يتصورونه فقط ساحة للمتاجرة في الأجهزة والبرمجيات وخطوط الاتصال وبعض الخدمات هنا وهناك, ولا يخطر علي بالهم أن المهمة الأولي. للقطاع بإمكاناته وتكنولوجياته وخبرائه هي تطوير المجتمع عبر الاشتباك مع قضاياه وأزماته الكبري وحلها بأساليب مبتكرة وجديدة تستند إلي ما تتيحه التكنولوجيا من إبداع, ولذلك فهم لا يكفون عن الدخول في معارك صغيرة وهم يلهثون وراء صفقة هنا أو مناقصة هناك, مما تتفضل به السوق أو سقط المتاع من الأعمال التي تتساقط من الدولة بين الحين والآخر, وفي هذا السياق تقدم لنا مشكلة رغيف الخبز واحد من الدلائل العديدة علي وصمة الخطأ والتقصير التي تجلل جبين قطاع التكنولوجيا في تعامله مع قضايا مجتمعه الكبري, واليوم أتناول هذه القضية من منظور المعلومات والتكنولوجيا باعتبارها نموذجا علي انسحاب القطاع من معركة الضغط من أجل وضع البعد أو الدور المعلوماتي ضمن الأبعاد التي لها أولوية وأهمية بارزة لدي الدولة عند التعامل مع المشروعات والمشكلات والهموم والتحديات القومية, وهي معركة تتعلق بالتأثير إيجابيا علي طريقة تفكير الدولة والقائمين علي السلطة, وتناولت إطارها النظري والفكري الأسبوع الماضي. في يونيو من عام2008 طرح أحد مسئولي وزارة التضامن فكرة استخدام الرقم القومي في التعامل مع أزمة رغيف الخبز, وقوبلت الفكرة بتخوف جماهيري وإعلامي واسع النطاق تحت وطأة الاعتقاد بأن دخول الرقم القومي علي الخط في إدارة الأزمة يعني أنها تعقدت أكثر, فسارع رئيس الوزراء أحمد نظيف ووزير التضامن علي مصيلحي بنفي النية لاستخدام الرقم القومي وتكنولوجيا المعلومات في إدارة أزمة الرغيف, وساعتها كتبت بالحرف في هذا المكان أن موقف الرجلين يعد تراجعا منهما أمام التيار الجارف من الفهم الخاطيء للعلاقة بين أزمة الرغيف وإمكانات التكنولوجيا, ويعني أنهما انتصرا للمنهجيات التقليدية الفاقدة للفاعلية في مواجهة الأزمة التي تحتاج تدخلا علميا شاملا من تكنولوجيا المعلومات لكي يتم السيطرة عليها وإدارتها بكفاءة أعلي وأفضل, وعلاوة علي ذلك كله هو قرار يفوت فرصة نادرة لبث وتوطين تكنولوجيا المعلومات في مفاصل المجتمع وعظامه الأساسية وجماهيره العريضة بشكل لا تضاهيه أي جهود أخري. مر الأمر ولم يلتقط القطاع هذه الفرصة لكي يدلف بمنهجية وعمق إلي القضية ويخرج بتصور يمهد الطريق أمامه; ليعيد صياغة الطريقة التي تفكر بها الدولة في إدارة أزماتها الكبري. وما دمنا نتحدث عن معارك كبري للقطاع وفي مقدمتها ضرورة الضغط من أجل تغيير طريقة الدولة في التفكير والأخذ بالبعد المعلوماتي للقضايا الكبري, فلا بأس من أن نعيد النظر سريعا جدا وبإيجاز في أزمة رغيف الخبز من منظور المعلومات, لعل أحدا يهتم أو يفيق أو يدفع الأمور إلي الطريق الذي تفرضه اللحظة الراهنة الفارقة. حينما ننظر لأزمة الخبز من منظور المعلومات نجدها علي النحو التالي: تبدأ منظومة إنتاج الخبز كما هو معروف بتجميع الأقماح المطلوبة لإنتاج الخبز من مناطق الاستيراد بالخارج ومناطق الإنتاج بالداخل, ثم شحنها من الموانيء ومناطق الإنتاج ونقلها للصوامع ثم تخزينها, ثم نقلها للمطاحن لطحنها وإنتاج الدقيق, ثم نقلها بأساطيل نقل الدقيق بسائقيها ومديريها وشاحناتها ومساراتها, ثم المخابز والجهات التي يفترض أن يوزع عليها الدقيق والأشخاص الذين يتسلمونه, ثم بعد ذلك مرحلة الخبيز بما فيها أصحاب المخابز والعمال الذين يتعاملون مع الدقيق في جميع مراحل الخبيز, ثم نقل الخبز لمنافذ التوزيع, ثم منافذ التوزيع التي تقف أمامها طوابير المستهلكين, ثم المستهلكين أو المشترين للخبز وطريقة تعاملهم معه. ولمعرفة ما إذا كانت مراحل الدورة تعمل علي نحو سليم, لابد من توثيق ورصد كل ما يتم خلالها من أحداث وأفعال وممارسات يقوم بها كل المشاركين في جميع مراحل هذه الدورة بشرا أو أدوات, ومنطقيا فإنه لا سبيل لتنفيذ الرصد والتحليل والمراقبة والتوثيق إلا في وجود آلية تترجم الأحداث والأفعال التي تتم إلي بيانات خام مدققة. والحاجة إلي آلية لترجمة الأحداث والأفعال إلي بيانات ثم معلومات هي تحديدا منطقة التماس أو الأرضية المشتركة التي يتعين أن تنبع منها وتنمو فوقها العلاقة بين دورة إنتاج الخبز وتكنولوجيا المعلومات, لأن الأحداث والأفعال والممارسات التي تقع عبر دورة الإنتاج لا يمكن ترجمتها إلي بيانات ومعلومات ذات قيمة وقابلة للتوظيف العملي الفوري إلا من خلال بنية أو منظومة معلوماتية تصمم وتنشأ ويجري تشغيلها خصيصا لهذا الغرض, لتنتج البيانات المطلوب تجميعها وتوليدها وإدارتها علي مدار اللحظة لكي تخضع للتصنيف والتخزين والرصد والتحليل, ثم توظف في إنتاج المعلومات المطلوبة لدعم اتخاذ القرارات وعمليات الضبط والمحاسبة وعلاج الخلل, وتضم هذه البيانات علي سبيل المثال: بيانات حديثة مدققة عن العمليات الإدارية والتشغيلية المتعلقة بحركة استيراد القمح من الخارج. بيانات حديثة مدققة لجميع العاملين أفرادا ومؤسسات في مرحلة تجميع ونقل الأقماح من المواني ومناطق الإنتاج إلي صوامع التخزين والمطاحن. بيانات حديثة مدققة عن العمليات الإدارية والتشغيلية المتعلقة بطحن القمح بالمطاحن. بيانات حديثة مدققة عن المخابز وعناوينها ومواقعها وطاقاتها الإنتاجية وأدوات وأجهزة الخبيز وحصص الدقيق المنصرفة لها والجهة التي تسلمها لها وأصحاب المخابز والعاملين بها والنطاق الجغرافي الذي تخدمه وعدد المستهلكين الذين يفترض أن يخدمهم المخبز. بيانات حديثة مدققة عن العمليات الإدارية والتشغيلية الخاصة بوسائل نقل الخبز من المخابز إلي منافذ التوزيع. بيانات حديثة مدققة عن العمليات الإدارية والتشغيلية في منافذ التوزيع. بيانات حديثة مدققة عن مستهلكي الخبز ترصد مواقعهم الجغرافية وتحدد المستويات المعقولة لاستهلاكهم اليومي من الخبز, وذلك لاستخدامها في وضع خريطة مفصلة لاحتياجات الخبز بمختلف مناطق الجمهورية. بيانات حديثة مدققة عن العمليات الإدارية والتشغيلية لدي أجهزة الرقابة والمتابعة سواء في وزارة التضامن ومديريات التموين أو الإدارة المعنية بوزارة الداخلية. إطار عام أو منهجية موحدة للتعامل مع هذه النوعيات المختلفة من البيانات والتنسيق فيما بينها بحيث يتم تصنيفها وتحليلها وفقا لمعايير واضحة تسمح بوجود لغة معلوماتية مشتركة بين جميع الأطراف. وكل بند من بنود البيانات السابقة يحتاج إلي قاعدة بيانات ضخمة; لكي يكون بندا فاعلا وسليما داخل منظومة معلومات الخبز, ولذلك فإن توفير طبقة البيانات الأساسية بمكوناتها السابقة تعد أصعب وأقسي مراحل إنشاء منظومة المعلومات المقترحة علي الإطلاق, ولذلك لابد من بناء إطار تشريعي إداري تنفيذي متكامل يتسم بالكفاءة والاستمرارية ويوفر البيانات والمعلومات الأساسية المتعلقة بدورة إنتاج الخبز بشفافية وعلي مدار اللحظة. من هذه النقطة تبدأ معركة قطاع تكنولوجيا المعلومات, حيث عليه أن يبادر بدراسة واقتراح هذا الإطار التشريعي الإداري التنفيذي المسئول عن توفير هذه البيانات أولا, وهنا سيكون البعد المعلوماتي لأزمة الخبز قد تجاوز مرحلة الهم الأكبر المتعلق بالجوهر والموضوع ودخل مرحلة الهم الأصغر أو العنصر الثاني المتعلق بالأدوات والأجهزة والمعدات والشبكات والبرمجيات والعمالة المدربة, أو ما يطلق عليه الخبراء البنية المعلوماتية, ويمكن تصور ملامح هذه البنية فيما يلي: أدوات طرفية لالتقاط وتجميع وبث المعلومات والبيانات طبقا لمقتضيات العمل, وتشمل هذه الأدوات الحاسبات المكتبية والمحمولة وغيرها. شبكة اتصالات ومعلومات واسعة النطاق تربط جهات ومناطق إنتاج القمح المحلي والمستورد بالمستودعات والصوامع والموانيء والجهات المسئولة عن أساطيل النقل للمطاحن والمطاحن وأساطيل نقل الدقيق للمخابز, والمخابز وأساطيل نقل الخبز للمنافذ ثم المنافذ نفسها وأخيرا جماهير المشترين, مرورا بجهات الرقابة والمتابعة والتخطيط. أوعية لتخزين المعلومات المتداولة عبر الشبكة. قواعد بيانات يتم تركيبها علي أوعية التخزين وتقوم بفهرسة وتصنيف وتبويب المعلومات والبيانات الواردة إلي أوعية التخزين علي مدار اللحظة. سلسلة من النظم والتطبيقات والبرمجيات التي تبني علي قواعد البيانات ويتم تصميمها والتخطيط لها وتشغيلها وفقا لما تفرضه دورة إنتاج الخبز بمراحلها المختلفة, ويفترض أن تشكل هذه النظم والتطبيقات واجهات يتعامل من خلالها جميع الأطراف ذوي العلاقة بدورة إنتاج واستهلاك الخبز. ومع تكامل الإطار التشريعي الإداري التنفيذي مع البنية المعلوماتية التحتية يتحقق ما يمكن أن نطلق عليه إدارة أزمة الخبز المستندة للمعلومات, بما يحقق انفراجة في الأزمة غير معهودة وفرص عمل إضافية وجديدة أمام القطاع. إنني أتساءل الآن: هل حاول أحد في وزارة الاتصالات أو الشركات أو المنظمات الأهلية الاقتراب من هذه الأزمة الطاحنة وغيرها من عشرات الأزمات المماثلة كالاحتكارات في سوق الحديد والأسمنت أو قضية الدعم أو خلافه, باعتبارها فرصة وأعد بذلك خطة وقدمها للدولة كطريق مختلف للحل ولتوسيع فرص العمل أمام القطاع وشركاته وأبنائه؟ هل قدمت هذه الخطط مشفوعة بما يمكن أن تحققه من قيمة مضافة في حل هذه الأزمات وعائد غير مباشر علي القطاع؟ إذا كان مسئولو هذه الجهات قد فعلوا شيئا فليعلنوا ذلك لكي نرفع لهم القبعة احتراما, وإذا لم يكونوا قد فعلوا شيئا, فعليهم أن يتحسسوا جباههم, وحتما سيجدون آثار وصمة التقصير والخطأ بارزة لا تخطئها العين ولمسة الأصبع, وأن يتذكروا أنهم يحملون وزر هذه الوصمة في حق القطاع والوطن معا.