حاولت علي مدي الأسابيع الأربعة الماضية أن أمسك بالقلم وأكتب إليك عن المرارة التي أشعر بها والألم الذي لم تندمل جراحه بعد ولا أظنها ستندمل أبدا.. فلقد جددت الكلمات المعبرة عن شقيقك المهندس ايهاب الذي صدمته سيارة تابعة لسفارة أسبانيا أمام مقر شركة مصر للطيران للخدمات الجوية ومات علي الفور لاقيا وجه ربه, وتاركا وراءه قضية كبري تتعلق بمدي التدهور الذي آلت إليه حال الشارع المصري.. أقول إن هذه الكلمات النابعة من القلب جددت آلامي وأحزاني في موقف مماثل مع ابني الراحل, وهو مهندس شاب أيضا. ودعني أروي لك القصة باختصار شديد, فأنا مدير عام علي المعاش, وقد توفيت زوجتي العام الماضي, ورزقنا الله بإبني الوحيد أحمد, وانقطعت صلتنا بمسقط رأسنا في إحدي محافظات الوجه البحري, حيث إنشغل الأهل والأقارب ولم نعد نتزاور إلا في الأعياد والمناسبات وانتهي المطاف الي الحياة في شقتنا بمصر الجديدة.. وتخرج ابني في كلية الهندسة بعد وفاة والدته بشهور.. وكم بكينا يوم تخرجه وتمنينا لو أن والدته حية بيننا, فلقد كانت تنتظر اليوم الذي تراه فيه مهندسا قد الدنيا علي حد تعبيرها التلقائي.. ورحت أترقب اللحظة التي يلتحق فيها بشركة كبري وأفخر به وسط الجيران والمعارف واشتريت له سيارة, وقلت له لقد أصبحت رجلا ومن الآن فصاعدا سوق أعتمد عليك فأنت سندي في الدنيا وليس لي سواك فاحتضنني بشدة ثم انخرطنا في حالة بكاء مريرة كالعادة.. لكن هذه المرة لم تكن مثل كل المرات السابقة, حيث أحسست بقبضة غريبة لم أشعر بها من قبل.. وخرج ابني بسيارته قاصدا إحدي الشركات التي سيخضع لاختبار بها املا في قبوله للعمل بها.. وانتظرت عودته ولكن طال غيابه وحاولت الاتصال به فلم يرد. وفجأة جاء الخبر كالصاعقة.. لقد مات أحمد في حادث اصطدام سيارة نقل بسيارته.. حيث صعدت فوقها وهشمتها تماما.. وما إن سمعت هذه الكلمات حتي سقطت علي الأرض مغشيا علي من هول الصدمة.. ونقلني الجيران الي المستشفي وظللت في العناية المركزة أياما لا أعرف عددها.. اما ابني فلم يجد الجيران حلا له سوي استخراج تصريح بدفنه.. ولأنهم لا يعرفون لنا أقارب ولا مقابر فلقد دفنوه في مقابر الصدقة!. أرأيت ما هو أصعب من ذلك يا سيدي.. لقد حملوني بعد إلحاح شديد لكي أزوره وعرفت مكانه.. ووجدتني أقول إنا لله وإنا إليه راجعون.. اللهم أجرني في مصيبتي ويا لها من مصيبة فلقد فقدت الابن والسند الوحيد في حياتي, ولم يعد لي أمل في هذه الدنيا الفانية.. وأدعو الله أن ينهي رحلتي في الحياة علي طاعته, وأتوسل اليه أن يرضي عني وأن يلهمني الصبر علي ما ابتلاني به. وهكذا إذا نظر كل منا الي بلوي غيره تهون عليه بلواه.. كما يقولون فاحتسب شقيقك المهندس ايهاب عند الله.. وسوف تجد عوضا عنه في ابنته روان وطفله محمد.. فاجعل تربيتهما هي رسالتك فيما هو قادم من الأيام. وأسأل الله أن يتغمد ابني وشقيقك بالرحمة, وأن يلهمنا جميعا الصبر والسلوان ويبقي النداء المهم بضرورة تفعيل قوانين المرور وتغليظ العقوبة علي المستهترين بأرواح البشر.. فإذا كنا نؤمن بالقضاء والقدر وبأن لكل إنسان أجلا محددا, فليس معني ذلك أن نلقي بأنفسنا في التهلكة.. ومن الضروري القصاص من القاتل ومحاسبة المقصرين فالاستهتار دائما يكون مثل التعمد.. ولعل قضاة مصر الأحرار يضعون ذلك في اعتبارهم من الآن فصاعدا.. فلقد وصلت الفوضي في الشارع المصري الي حد لا يمكن السكوت عليه. أتوقف في رسالتك المؤثرة أمام جانبين مهمين يلخصان المصيبة التي تصيب الإنسان من هذا النوع من الإبتلاءات التي يفقد فيها الإنسان واحدا من أقرب الناس إليه, وقد يكون ابنه أو أخاه أو أحد والديه. أما الشق الأول فهو الحدث في حد ذاته.. وبالطبع فإننا نعلم جميعا أن الأعمار بيد الله, وأن لكل إنسان موعدا محددا سوف يلقي الله فيه, وعلينا دائما الصبر والتحمل, واحتساب فقيدنا عند الله, وسواء كان كبيرا في السن أو شابا يافعا, أو طفلا في عمر الزهور فإن قضاء الله لاراد له وربما أراد له ذلك لحكمة هو يعلمها. يقول الحق تبارك وتعالي قل متاع الدنيا قليل.. ومهما أوتي البعض من مال وجاه وسلطان فهو إلي زوال.. لأنه لعب ولهو كما يقول الله عز وجل إنما الحياة الدنيا لعب ولهو, ولذلك يجب ألا نبيع لعبا قليلا يفني, بالحياة الأبدية في الآخرة, حياة لاتغني, وشباب لا يبلي. فلقد حدثنا عبدالله بن الشخير رضي الله عنه أنه قال أتيت النبي صلي الله عليه وسلم وهو يقرأ ألهاكم التكاثر فقال: يقول ابن آدم: مالي.. وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما اكلت فأفنيت, أو لبست فأبليت.. أو تصدقت فأمضيت.. رواه مسلم. وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل علي رسول الله صلي الله عليه وسلم وهو علي حصير قد أثر بجنبه فبكي عمر فقال له النبي.. ما يبكيك يا عمر؟ فقال ذكرت كسري وقيصر وما كانا فيه من الدنيا وأنت رسول الله رب العالمين وقد أثر بجنبك الحصير فرد عليه صلي الله عليه وسلم اولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا ونحن أخرت لنا طيباتنا في الآخرة. إن الدنيا لن تبقي لحي ولا حي سوف يبقي علي الدنيا.. نعم كلنا نعي ذلك لكن الفراق صعب.. وكلما تذكر أحدنا من فقده ينخرط في بكاء مرير ويتعجب لحال الدنيا.. وفي النهاية عليه أن يرجع الي الله ويتخذ من المأساة التي تعرض لها درسا يؤكد له أن الدنيا فانية.. وكما يقول الحسن رضي الله عنه يا معشر الشباب عليكم بطلب الآخرة, فقد رأينا والله أقواما طلبوا الآخرة فأصابوا الدنيا وأصابوا الآخرة, والله ما رأينا من طلب الدنيا فأصاب الآخرة. فأبشر بجنة الخلد لإبنك ولشقيقي وأقرانهما من الشباب النقي الطاهر الذين ستكون لهم الآخرة خيرا من الأولي بإذن الله. وأما الشق الثاني فيتعلق بضرورة تشديد العقوبة علي المستهترين بأرواح البشر, فلا يعقل أن يروح يوميا ضحايا لهم دون ذنب ولا جريرة.. والأمر بين يدي القضاء العادل, وسوف يقضي الله امرا كان مفعولا.