كثيرة هي الأحداث والأيام الكبيرة في عمر هذا البلد, لكن اليوم الأبرز الذي سطرته دماء الأبطال المصريين بلا شك هو يوم العاشر من رمضان السادس من أكتوبر1973 بالأمس قبل38 عاما نجحت قواتنا المسلحة في عبور قناة السويس إلي سيناء, تمكنت بعد عملية اقتحام ناجحة بدأت في الساعة الثانية ظهرا من الاستيلاء علي الجزء الأكبر من الشاطيء الشرقي للقناة, وسقطت في أيدي قوات العبور المصرية نقط العدو واستحكاماته القوية حيث رفع الجنود المصريون العلم المصري, بينما غطت علي دوي المدافع وانفجارات القنابل أصواتهم وهم يكبرون لحظة ارتفاع العلم فوق الأرض المصرية, وفوق سماء المعركة اشتبكت مقاتلات سلاح الجو المصري مع الطائرات الأسرائيلية في معارك مدمرة طارت فيها240 طائرة مصرية وأخذت تقتل قوات العدو المسترخية. وطوال ليلة أمس العاشر من رمضان خاضت قوات العبور المصرية معارك ضارية بالدبابات مع قوات العدو علي أرض سيناء, فتدافعت موجة وراء أخري لعبور الممر المائي واقتحام القوات المصرية خط بارليف. وبعد مرور12ساعة علي بدء المعركة اعترفت قوات العدو بأن القوات المصرية قد نجحت في عبور قناة السويس في كثير من المواقع مستخدمة جسورا أقامتها عبر القناة من القطاعين الشمالي والأوسط, وظهر الجنرال ديان ليعترف بأن قواته قد تكبدت خسائر فادحة أفقدتها بعض المواقع, معلنا استمرار المعركة في سيناء, ودوت صفارات الإنذار في مدن إسرائيل ليدخل أهلها الغاصبون في المخابيء.. هذه المقدمة التي أكتبها اليوم كانت خلاصة مانشرته الصحف اليومية صبيحة يوم الحادي عشر من رمضان(1973)وعندما نعود بالذاكرة إلي5 يونيو1967عندما هاجم العدو الجبهة المصرية في الجو والبر في مغامرة مجنونة لضرب الحصار العربي من حوله منذ الساعة التاسعة صباح ذلك اليوم, ويلحق بقواتنا الهزيمة المعروفة بنكسة76, والتي ترتب عليها ما ترتب من إحباط ويأس وخراب اقتصادي طال كل الأشخاص والأشياء, ودفع بالرئيس عبد الناصر إلي إتخاذ قراره بالتنحي عن كل مواقعه الرسمية وتكليف زكريا محيي الدين بتولي رئاسة الجمهورية, وامام الضغط الشعبي الغلاب تراجع عبدالناصر عن التنحي لتبدأ مرحلة جديدة من المعاناة والمتاعب, وتدور خلالها حرب الاستنزاف جنبا إلي جنب مع جهود بناء القوات المسلحة, ومع مرور العام تلو العام ينتقل عبدالناصر إلي رحاب الله ويأتي السادات رئيسا ويظن المصريون أن الحلم قد ضاع وأنه لا أمل في استعادة الأرض, وظهر ما يعرف بعام الضباب وفيما بين اليأس المطلق والاحباط الشديد كان معظم المصريين يعيشون كالتائه في صحراء سوداء. وعلي قدر تملك اليأس من كل المصريين كان أبطال القوات المسلحة المصرية الذين عرفناهم يوم25يناير2011 يواصلون الليل بالنهار تدريبا واستعدادا أملا في التخلص من مرارة الهزيمة, حيث لم يسبق أن تعرض جيش مصر في تاريخه الطويل لمثل هذه المرارة, وقد زاد من وطأة هذه المحنة الكبري.. شعور عميق بالظلم.. حيث لم يكن الجيش هو سبب هذه النكسة بقدر ما كان ضحيتها الأولي غير أن كل هذه المشاعر ساعدت علي تحريك الهمم من أجل الثأر وأفرزت طاقة هائلة ورغبة في رد الكرامة بقوة.. ما إسرائيل وقادتها فقد كانت غارقة في اعتقادها أن أمن إسرائيل في وضع مثالي وأن احتلال سيناء والضفة وغزة والجولان منحها ما لم تكن تحلم به,وكانت جولدا مائير تردد ذلك باعتباره أمنا مطلقا قادرا في تقديرها علي فرض السلام, وزاد من هذا الاعتقاد الأحمق لرئيسة وزراء إسرائيل أنها استهانت بالرئيس أنور السادات وإتفقت مع كيسنجر وزير خارجية أمريكا آنذاك علي أن السادات مجرد بهلوان سياسي. وكان موشي ديان أكثر غباوة من جولدا مائير فقد صرح إلي مجلة تايم 30 يوليو1973 قائلا: إن السنوات العشر القادمة سوف تشهد تجميدا لحدود إسرائيل علي الخطوط الحالية, ولن تكون هناك حرب كبيرة بين العرب وإسرائيل وفي تصريح آخر قال: إن موازين القوة في صالحنا ونحن متفوقون علي كل العرب مجتمعين, ومهما كان من نوايا العرب فهم غير قادرين علي تجديد الأعمال العدائية لأن سيادتنا العسكرية تنبع من ضعف العرب من ناحية وزيادة قدرات إسرائيل من ناحية أخري. وقبل حرب العاشر من رمضان بعدة أيام لخص ديان تقديره النهائي للموقف قائلا: إذا أقدم المصريون علي حماقة فسوف يتكبدون خسائر فادحة في المرحلة الأولي, أما في المرحلة الثانية فإن الجيش الاسرائيلي سوف يكون قادرا علي ضربهم في كل اتجاه وهكذا ظل اليقين الوهمي والغطرسة الكاذبة مسيطرة علي المشاعر والعقول في تل أبيب وكذلك في واشنطن. ومع اقتراب ساعة الصفر كانت خطة السادات قد نجحت في خداع الأمريكيين والإسرائيليين أنه لا ينوي الحرب وعلي حد تعبير الأستاذ محمد حسنين هيكل رأي السادات نفسه أشبه بفرعون, ورغم أن هذه تعد مبالغة من قبل هيكل إلا أن السادات كان شديد الفخر بالتاريخ الطويل لشعب مصر وحكامه القدماء الأقوياء, كذلك كان ينظر للقادة العرب بنوع من الازدراء مشيرا إلي أنهم مدينون بمراكزهم لصدمة اكتشاف البترول, ولولا ذلك لظلت بلادهم مجرد أشلاء من الأميين, ويمكن القول بأمانة أنه لاشيء منح السادات الرضا أكثر من أنه كان قادرا علي ترحيل الخبراء الروس بنوع لا يخلو من الاهانة. وبرغم مهارة السادات وعبقريته في خداع كل العقول اللامعة خارج مصر بأن قواته لم تعد قادرة علي خوض المعركة كان السادات يعيش أشد لحظات القلق ولا يدور في رأسه إلا سؤال واحد هل توجه إسرائيل ضربة اجهاض بالطيران ضد الجبهة المصرية قبل ساعة الصفر وقد اختار السادات وقادته يوم كيبور الذي يعد من أقدس الأيام في التقويم اليهودي وتقام فيه الاحتفالات ويحترمه كل من يعتنقون الديانة اليهودية حتي غير المتدينين منهم. وبعد ظهر السبت(6 أكتوبر) وصل أنور السادات إلي مقر القيادة الرئيسي للعمليات برفقة الفريق أحمد إسماعيل رحمه الله ودخل قاعة العمليات في الساعة الواحدة والنصف وكانت القاعة بها ما يزيد علي مائة ضابط من القادة أعصابهم مشدودة ومشاعرهم يمتزج فيها الأمل والقلق والعلم والايمان انهم يعيشون لحظة فاصلة في تاريخ وطنهم وتحيط بهم اللوحات الزجاجية والخرائط الشفافة وأجهزة الاتصال وخطط الأسلحة وخلافه. وبعد الساعة الثانية وخمس دقائق تعلقت الأنظار في القاعة إلي الركن الخاص بالقوات الجوية وسرعان ما وصلت الاشارات بأن قوات الضربة الجوية الأولي200 طائرة قد عبرت علي ارتفاع منخفض فوق قناة السويس, ثم توالت الاشارات بأن طائرات هذه القوة بلغت أهدافها, وبدأ تنفيذ مهامها بنجاح, وتمكنت من ضرب مراكز قيادة ومواقع الرادار وغيرها للعدو. في نفس اللحظة كانت العيون تتحرك إلي الركن الاصلي بالمدفعية حيث كانت فوهات2000مدفع من مختلف العيارات تضرب بكل انتقام لتدمير خطوط العدو ومنشآته, وتلا ذلك قصف عنيف بستمائة مدفع لتحطيم تحصينات خط بارليف. وعندما سكنت عقارب الساعة عند الثانية و25دقيقة كان هناك لواء دبابات برمائي يعبر علي القطاع الجنوبي من مياه القناة ومن خلفه المدرعات السابحة ومن فوقها وفي نفس اللحظة كانت تعبر فوق القناة مجموعة من الطائرات تحمل مجموعات من قوات المظلات الذين قفزوا بقرب منطقة المضايق تنفيذا للخطة, وبعد مضي ساعة علي بدء الحرب كان لدينا800ضابط و135000جندي علي الضفة الشرقية وسرعان ما لحقت بهم وحدات بحرية تحمل قوات المهندسين العباقرة الذين فتحوا الثغرات في الساتر الترابي علي الضفة الشرقية خلال ثلاث ساعات, ليبدأ تركيب أول كباري العبور وتنطلق أول دبابة, وتستمر المعجزة البشرية المصرية حتي تنجح في تجريف ما حجمه09 ألف متر مربع من الرمال ومع حلول منتصف اللية كانت هناك خمس فرق كاملة من المنشأة والمدرعات علي الضفة الشرقية وكانت معظم مواقع خط بارليف الحصينة قد انهارت وتم اقتحام نصفها. في هذه الليلة العظيمة تأكد أن المصريين تعلموا الدرس جيدا من حرب الأيام الستة لدرجة أنه عند بداية العبور كان الإسرائيليون مندهشين من كم الأسلحة التي يمتلكها الجنود المصريين فضلا من روح رمضان القتالية علي عكس ما أشاعه القادة المصريون من أن جنود المشاة المصريين لن يستطيعوا الصمود أمام المدرعات الإسرائيلية. وزاد في الإبهار أن القوات المصرية تحركت كما تدربت حرفيا, وأنجزت أكثر مما توقعه اللواءات المصريون, وحطمت مئات الدبابات الاسرائيلية وأسقط العديد من الطائرات, وبدأ الموقف معتما بالنسبة لقادة إسرائيل, أيضا كان المهندسون المصريون قادرين علي هدم الحواجز الرملية التي أقامها اليهود والتي كانت هناك استحالة في هدمها بواسطة أي آلة مدرعة, حيث اكتشف هؤلاء العباقرة أن تدفق الضغط العالي من المياه هو الحل الذي يمكن من خلاله هدم هذه الحواجز. وكانت الجبهة السورية أيضا تعيش نفس المشهد المصري الذي بدأ بضربة جوية ثم جري تمهيد بالمدفعية حتي تقدمت المدرعات السورية نحو التحصينات الاسرائيلية في الجولان, وقبل أن ينزل الظلام كانت قوات العبور السورية تتقدم نحو مدينة القنيطرة عاصمة الجولان. كانت اللحظة الأروع في عمر هذا اليوم العظيم عندما تلقي القادة المصريون ومعهم أنور السادات التقدير المبدئي عن حجم الخسائر المصرية في عملية العبور والذي أكد استشهاد64رجلا إلي جانب420جريحا وقد اصيبت17 دبابة وتعطلت26عربة مدرعة, وذلك علي عكس التوقع بأن تتجاوز الخسائر البشرية عشرات الآلاف من الشهداء والجرحي, وبدا القادة المصريون غير مصدقين وقائع ما جري امام عيونهم معتبرين ما حدث بكل المعايير ضربا من المعجزات, وقال الفريق أحمد إسماعيل البطل ملاحظة واحدة قال فيها: الاولاد يتقدمون علي الكباري كما لو أنهم يقومون بعملية تدريب, وكأن كل هذه النيران من حولهم مجرد مناورة بالذخيرة الحية ومن عجائب القدر أن يفقد الرئيس السادات شقيقه الأصغر عاطف ذلك الطيار الذي كان مقربا إلي قلبه ونفسه والذي كان يعتبره ابنه. في هذا اليوم المشهود استطاعت مصر أن تقلب كل النظريات العسكرية السائدة وتقطع ما عرف بذراع إسرائيل الطويلة, ومن ثم هدم أهم ركائز الأمن الاسرائيلي فوق رأس مؤسستها العسكرية ليدخل قادة الدولة العبرية في خندق الخلاف والانكسار, وهذا ما عبرت عنه الصحف الاسرائيلية التي وصفت ديان بالمكتئب, وأشارت إلي قوله: لانستطيع أن نردهم الآن ونهزمهم يقصد المصريين والذي ينبغي أن نفعله هو أن ننتشر عبر الخطوط الجديدة في هذا الجانب وفي الجزء الجنوبي من سيناء ولا أعتقد أن أي قرار لمجلس الأمن سوف يوقف العرب. وبرغم تطور الأحداث في الايام التالية إلا أن اليوم الأول في هذه الحرب كتب لمصر ميلادا جديدا وأضاف إلي تاريخ العرب أول انتصار عسكري واضح, والأهم من ذلك أنه جعل من أنور السادات هامة وقامة كبيرة جعلت رجلا مثل هنري كيسنجر يعترف بأن السادات داهية سياسي بعد أن كان يعتبره بهلوانا وقبل هذا اليوم كان شعب مصر ينظر إلي رئيسه علي أنه رجل لايجيد إلا الوعود الجوفاء والكلمات الفارغة.. لكن الحدث الأعظم والنصر الاكبر جعل الرئيس السادات يعترف صباح يوم7 أكتوبر بأنه لم ينم طوال الليل وانما كان يفكر, وأنه كانت لديه شواغله التي أدت به إلي الأرق مع وصول أول برقية أمريكية تطالبه بوقف القتال بل ولا تخلو من التهديد المباشر بأن القتال, لو استمر فسوف يؤدي إلي نجاح الجانب الآخر الاسرائيلي وتقديرهم أن اسرائيل سوف تقوم بهجوم مضاد كبير خلال اليومين المقبلين. وفيما بين اندهاش العالم وردود الفعل وطلب عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن وانزعاج الرئيس الامريكي كانت هناك معارك وهجمات مفزعة يشنها الابطال المصريون داخل قلاع وحصون العدو, وكانت هناك جماعات منهم تزحف علي مياه البحر الأحمر والمتوسط لتصل إلي أهدافها علي سواحل سيناء.. لقد فوجيء العدو بهذا الحجم من الصاعقة المصرية. وهكذا انتهت أحداث يوم العاشر من رمضان لتبدأ موجات أخري من الانتصارات في الأيام التالية حتي تحقق النصر العظيم بعد أن عاشت مصر كابوس. } مصادر: } أكتوبر السلاح والسياسة محمد حسنين هيكل } موسوعة حرب رمضان القوات المسلحة } السادات وهم التحدي جوزيف فينكليستون } بعض الإصدارات والصحف الصادرة بعد الحرب.