لا ينكر منصف الدور الحيوي لوسائل الإعلام في ترسيخ حق المواطن في أن يعلم وأن يكون قادرا علي النفاذ الي الحقائق الكاملة المتعلقة بالعمل العام في شتي مجالاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ويمتد هذا الدور ليشمل القضاء خاصة فيما يتعلق بالقضايا موضع اهتمام الرأي العام, فيسهم الإعلام في إيضاح الإجراءات وبيان مفاد الأحكام القضائية, بما ينفي اللبس بشأنها, علي النحو الذي يحدث حاليا في الشارع المصري. إلا أن فتح الباب علي مصراعيه بدون ضابط لوسائل الإعلام والفضائيات لنقل وبث وقائع الجلسات أو تناول الأعمال القضائية خاصة لغير المتخصصين يمكن أن يؤدي الي نتائج لاتحمد عقباها, منها الإخلال بقاعدة المساواة وتقويض مبدأ المحاكمة العادلة, حين يترك لوسائل الإعلام حرية تحديد ما يتم وما لايتم تصويره ونقله من وقائع الجلسات بصورة مجتزئة بما يشكل اخلالا بالعرض المتوازن والعادل للإجراءات, ويؤدي بطريق غير مباشرة الي التأثير علي جمهور المتلقين وتكوين رأيهم بشأن القضايا المعروضة, وتشكيل انطباعات مسبقة لدي الرأي العام, قد لاتتفق بالضرورة مع ما يصدره القضاء من أحكام, أو تنعكس بتأثيرات سلبية وغير قويمة علي الأداء القضائي وتقييمه, وهنا لن تصبح تلك الأحكام موضع اطمئنان الجمهور, فتثور في نفسه الريب وتستبد به الظنون وتصبح أحكام القضاء في موضع لا يليق. وقد تشكل وسائل الإعلام قوة ضاغطة علي الشهود حال إدلائهم بأقوالهم مما قد يؤدي بهم الي تحريف شهادتهم بقصد أن تتفق مع الشعور المتولد لدي الرأي العام, أو نتيجة تأثرهم تلقائيا أو لا شعوريا بذلك التأثير الإعلامي والضغط الجماهيري, وهو ما تتأذي به العدالة. هذا وقد استوقفنا في الآونة الأخيرة تناول بعض وسائل الإعلام للإجراءات القضائية التي تتم في المحاكم والتعليق عليها بصورة مشوشة وغير دقيقة, وقد يشمل ذلك إطلاق تفسيرات خاطئة بشأنها قد تزعزع ثقة الرأي العام في العمل القضائي, وتتيح التجاسر علي هيبة القضاء واستقلاله في صورة تدخل غير مباح من قبل غير العالمين بأصول القضاء ودقائق رسالته. ومن أمثلة ما نعنيه بالتفسيرات الخاطئة, أو الأخبار المغلوطة أننا فؤجئنا, ببعض الفضائيات المصرية والعربية تروج الي أن مجلس القضاء الأعلي قد قرر علانية محاكمة قضايا فساد رموز النظام السابق وقتل المتظاهرين, وكأن المحاكمات كانت تجري في مصر قبل ذلك في غير علانية, وهو أمر مغلوط بطبيعة الحال, لأن ما أوصي به مجلس القضاء الأعلي هو مجرد نقل المحاكمات علي شاشات خارجية بما يشكل توسعا في مبدأ علانية الجلسات. ولما كان من أهم مظاهر استقلال القضاء ألا يتأثر القضاة في قضائهم إلا بكلمة العدل, ينطقون بها دون تدخل يزيفها أو خوف يئدها أو تأثير يرهقها, فقد بسط العديد من الوثائق الدولية الحماية المقررة للسلطة القضائية لتشمل وسائل الإعلام, ووضعت الحدود الفاصلة بين حرية الإعلام في تناول الأعمال القضائية حماية لاستقلال القضاء, فأكدت أنه يتعين علي وسائل الإعلام مقروءة ومسموعة ومرئية أن تلتزم في أداء رسالتها بالاحترام الواجب للمحاكم بتجنب كل ما من شأنه المساس بوقارها أو التأثير علي المحاكمة المنصفة التي هي حق من حقوق الإنسان, وذلك كله إدراكا لخطر تعطيل سير العدالة أو التأثير علي القضاء والرأي العام, وهو ما يسمي خطر المحاكمة عن طريق الإعلام وإقامة العدل بالوكالة, فإذا تم المساس بقواعد المحاكمة العادلة وحقوق الإنسان مثل قرينة البراءة انهارت قيمة الأحكام القضائية وفقدت حجيتها. وذلك حرص العديد من التشريعات المقارنة علي وجوب أن تتم إجراءات المحاكمة في جو من الكرامة واللياقة, ونظمت دخول وسائل الإعلام قاعات الجلسات لعدم المساس بهيبة المحكمة أو تشتيت فكر القضاة والشهود والدفاع والحط من كرامة المتهمين ضمانا للمحاكمة العادلة. إن أهداف ثورة52 يناير من قضاء علي الفساد وإرساء أسس العدالة الاجتماعية والمساواة أمام القانون وحماية الحقوق والحريات لا يمكن تحقيقها إلا في ظل وجود قضاء مستقل, قادر علي تطبيق معايير حقوق الإنسان المعترف بها, وإن ثقة الشعب المصري في استقلال قضائه كانت وسوف تظل بلا حدود, إلا أن استغلال الأحداث لمحاولة التوغل في تناول القضايا المنظورة أمام القضاء, أو تحقيق سبق إعلامي يقوم علي التشكيك في العمل القضائي قد يؤدي الي نتائج وخيمة, بما يهدد جوهر استقلال القضاء, وهو أمر يأباه كل مصري حر غيور علي بلده.