كثر الحديث أخيرا عن القضاء وعلاقته بالإعلام, وعن حدود وضوابط مبدأ علانية المحاكمة ومدي ملاءمة تصوير وقائع الجلسات وبثها تليفزيونيا, وهو أمر محمود من جهة لما في ذلك من إثراء للنقاش وطبيعي من جهة أخري مادام لم يكن هناك تشريع ينظم مثل تلك الأمور خلافا للمعمول به في الدول المتقدمة التي تحرص أشد الحرص علي تنظيم العلاقة فيما بين القضاء والإعلام, لذلك رأيت أنه من اللازم لكي تتم مناقشة هذا الموضوع وفقا لركائز وطيدة وحجج صحيحة أن ألقي بعض الضوء علي مفهوم وحدود وضوابط مبدأ علانية الجلسات مع بيان كيفية معالجة النظم القانونية في بعض الدول المتقدمة لهذا المبدأ المهم, حتي نعلم إلي أي اتجاه نحن ذاهبون. إن مبدأ علانية الجلسات أو ما يطلق عليه بعض الفقه علانية المحاكمة يعد ضمانة من الضمانات الأساسية لحقوق الدفاع, ويعني تمكين جمهور الناس بغير تمييز من الاطلاع علي إجراءات المحاكمة والعلم بها, وأبرز مظاهره السماح لهم بدخول القطاعات التي تنعقد بها الجلسات والاطلاع علي ما يتخذ بها من إجراءات, وما يدور فيها من مناقشات, ولمبدأ علانية الجلسات سند سياسي مرده الحرص علي إشراك الشعب في المسائل التي تهم الرأي العام في المجتمع, وتمكينه من الاطلاع عليها, باعتبار أن حق الجمهور في الحضور هو تعبير عن إشباع شعوره بالعدالة, ويعني ذلك أن المحاكمة ليست أمرا خاصا يدور بين المتهم والمحكمة, ويكفل هذا المبدأ إنهاء المحاكمات السرية التي كانت, فيما مضي أحد مظاهر الاستبداد السياسي, وإذا كان مبدأ علانية الجلسات, يعد من بين المعايير الدولية المعمول بها, ومن المباديء المستقرة في النظم القانونية الوطنية, إلا أنه يجب ألا يتم التستر خلفه سعيا وراء شهرة أو مباهاة بقضاء, بما يخل بمبدأ المساواة, أو يجعل القضاة محط أنظار وسائل الإعلام, لما في ذلك من خروج عن التقاليد المستقرة التي يتميز بها القضاء المصري, وهو الأمر الذي لاحظه الكافة في العديد من القضايا المهمة أو ما يطلق عليها قضايا الرأي العام, كما أن واقع الحال قد أظهر كيف أن البث الحر لوقائع الجلسات قد أثر سلبا في العديد من الحالات علي سير المحاكمة بما يمكن أن يقوض من حجية الأحكام الصادرة بشأنها, ولنا في ذلك أن نتذكر كيف أن سماح القاضي في قضية إية جي سمبسون لاعب كرة القدم الأمريكية الشهير المتهم بقتل زوجته وصديقه في التسعينيات بدخول الكاميرات قاعة الجلسة قد قوبل بانتقاد الأوساط القانونية في الولاياتالمتحدةالأمريكية بحسبانه أثر علي أداء القاضي والمحلفين, وحول القضية إلي عرض مسرحي, وللأسباب المتقدمة وحفاظا علي هيبة ووقار القضاء, فإن القانون في المملكة المتحدة يحظر التقاط الصور في المحاكم, أو رسم صور الأشخاص سواء كانوا من القضاة أو المحلفين أو الشهود أو أطراف الخصومة. ومن ناحية أخري, فلتيسير إعلام الجمهور بمجريات الجلسات وأحكام المحاكم, ويوجد مكتب للإعلام يتبع رئيس القضاء البريطاني, يختص بتوضيح حقيقة القواعد القانونية المطبقة علي إجراءات الدعاوي والأحكام الصادرة بشأنها وشرح ما يلتبس علي الإعلاميين والجمهور من إجراءات قضائية مع بيان مضمون ومقصد الأحكام. أما في فرنسا فإن دور وسائل الإعلام في المحاكم محاط بإطار قانوني صارم, فتحظر المادة803 من قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي تماما التسجيل الصوتي أو التليفزيوني أو السينمائي أو استخدام أجهزة تصوير بقاعات الجلسات, وفي حالة مخالفة ذلك يخضع المخالف لعقوبة مالية ضخمة, إلا أنه يجوز للرئيس إصدار الإذن بالتقاط المشاهد أو الصور قبل بدء المرافعات بشرط الحصول علي موافقة الأطراف والنيابة العامة, وذلك بناء علي طلب يقدم قبل الجلسة. الواقع العملي أكد أن سبب الاتجاه نحو حظر نقل وقائع الجلسات يكمن في أنها تؤثر بطريقة غير مباشرة علي تصرفات الشهود والمتهمين والدفاع, بل القضاة أنفسهم, إذ أنهم يصبحون أمام عدسات التصوير وأجهزة الإعلام وكأنهم يقومون بأدوار تمثيلية, فيدعوهم هذا الموقف إما إلي المبالغة وإما إلي الارتباك. لكل ما تقدم يجب أن يتدخل المشرع المصري لتنظيم كيفية تناول وسائل الإعلام لمجريات جلسات المحاكمة, وذلك بحظر بث وقائع الجلسات أو تصويرها, مع السماح بطبيعة الحال بنشر ما يدور في الجلسات ومنطوق الأحكام الصادرة فيها عن طريق الصحف. أما في القضايا التاريخية المهمة, إذا كان التسجيل يمثل أهمية تاريخية أو كانت القضايا تتعلق بطائفة عريضة من المجتمع وقع عليها انتهاكات جسيمة, فيمكن اتباع الإجراءات المنصوص عليها في بعض النظم القانونية المتقدمة, وذلك بالسماح لوسائل الإعلام بالتقاط الصور أو المشاهد قبل بدء المرافعات أو حين النطق بالأحكام, بناء علي إذن يصدر بذلك من رئيس الجلسة, الذي يدرس كل حالة علي حدة ويتحري مدي تأثير تصوير, ونقل وقائع الجلسات علي مقتضيات العدالة وهيبة ووقار المحكمة, وحقوق الدفاع والمجني عليهم, علي أن يتضمن القرار الصادر بالموافقة علي ذلك تحديد الأجهزة التي سوف تستخدم, وموضعها في قاعة الجلسة, وعدد الأشخاص المسئولين عنها, ومدة وحدود وضوابط التصوير, وقد يقتصر القرار علي مجرد الموافقة علي بث بعض وقائع المحاكمة علي شاشات خارج قاعة الجلسة, علي النحو الذي أوصي به مجلس القضاء الأعلي أخيرا, وفي جميع الأحوال يجب أن يراعي أي تشريع يصدر في هذا الشأن مباديء العدالة والقيم الأخلاقية والثقافية السائدة بالمجتمع والقواعد والتقاليد المستقرة في القضاء المصري, وخاصة فيما يتعلق بحق القاضي في حفظ النظام بقاعة الجلسة في حدود السلطات المخولة له في قانوني المرافعات المدنية والتجارية والإجراءات الجنائية لضمان تحقيق الوقار الواجب للجلسات, ترسيخا لهيبة القضاء المصري وحفظا لكرامة أطراف الدعوي. المزيد من مقالات المستشار.عادل ماجد