أعتقد أني أخرج في كل عام, بعد أن نقوم بالتصويت علي جوائز الدولة, وفي نفسي شيء من عدم الراحة بسبب نظام التصويت الذي لا يخلو من عيوب, لابد من مواجهتها مواجهة حاسمة, خصوصا في هذه المرحلة التي نرجو أن تكون أكثر اكتمالا وأعترف بأني حاولت القيام بذلك في السنوات التي كنت فيها أمينا للمجلس الأعلي للثقافة. ولكني لم أنجح بسبب عوائق لا تزال موجودة, بعضها يرجع إلي تشكيل المجلس الأعلي نفسه, وبعضها يرجع إلي نظام التصويت, وبعضها إلي جهات الترشيح وبعضها الأخير يرجع إلي الضغط الخارجي, خصوصا من أصحاب المصالح والساعين إلي الفوز, والتدخلات السياسية أذكر أن هذه التدخلات هي التي أدت إلي منح رئيس الوزراء الأسبق عاطف صدقي الجائزة التقديرية وأذكر للأمانة التاريخية أن المرحوم إسماعيل صبري عبد الله استقال من المجلس احتجاجا علي ذلك, فقد كان من رأيه, وهو علي حق, أنه لا يجوز الخلط بين المنصب السياسي والمكانة العلمية والثقافية, ومن الأمانة كذلك الإشارة إلي أن أعضاء المجلس كانوا يتمردون أحيانا علي الضغوط الواقعة عليهم حدث ذلك تحديدا في العام الذي كان مرشحا فيه لجائزة النيل كل من رئيس مجلس الشعب فتحي سرور والرجل القوي إبراهيم نافع رئيس مجلس إدارة ورئيس تحرير الأهرام الاسبق ورجل العلم الذي لم يكن له سند إلا من إنجازاته العلمية يونان لبيب رزق ويبدو أن تمرد أعضاء المجلس علي السلطة قد دفعهم إلي اختيار يونان لبيب رزق العالم الجليل علي حساب ممثلي السلطة القويين إبراهيم نافع وفتحي سرور. والحق أن هذه الظاهرة لها نماذج سلبية, أساءت إلي سمعة الجوائز, مثل حصول يوسف السباعي علي جائزة الدولة التقديرية, فبدا أشبه بالقاضي الذي يمنح الجائزة لنفسه بدل منحها مستحقيها وربما لم يكن هو المسؤول عن ذلك, بل الكثير من المنافقين لكل ذوي سلطة, وما أكثرهم عبر الأزمنة والعهود والحق أنه يحدث في هذا المجال كثير من حيل الماكرين والمتلاعبين من الانتهازيين. وكانت نتيجة مثل هذه الأمور التي لا تزال موجودة عدم حصول روائي بحجم محمد ناجي الروائي البارز علي جائزة التفوق لهذا العام, وعدم ترشيح روائيين كبار مثل محمد البساطي, وعدم نجاح هالة البدري الروائية المرموقة وقس علي هذه الأمثلة, في السنوات السابقة, أسماء أدبية ذات وزن أدبي وفكري كبير, ولقد شعرت, شخصيا, بالحزن هذا العام لأن عالما بحجم مصطفي العبادي بكل مكانته العالمية لم يجمع العدد الكافي من الأصوات واستطاع الرائد في علم الاجتماع أحمد أبو زيد أن ينتزع الجائزة رغم أنه لم يتصل بأحد ولم يرجو أحدا والحق أنه لا تزال ترن في أذني كلمات الدكتور نور فرحات التي قالها في مطلع جلسة الجوائز الأخيرة, مذكرا الجميع بأن ينسوا أسماء كل الذين ألحوا عليهم في التليفونات واللقاءات وللأسف تناست الأغلبية من الحاضرين ما قاله, وحصل بعض الملحاحين بالتليفونات علي جوائز لا يستحقونها في مجال العلوم الاجتماعية وهو الأمر الذي حدث في مجال الأدب الذي حرم فيه محمد ناجي- شفاه الله- من الجائزة التي هو أكبر منها حجما ومكانة وقيمة ولكنها المجاملات اللعينة والتربيطات التي تتم خارج القاعة, وقبل عملية الانتخابات للأسف إلي الآن, ولن تتغير إلا بتغيير نظام التصويت وتركيب المجلس علي السواء. أما عن تركيب المجلس فلابد من تعديل القرار الجمهوري الذي يحدد عدد الأعضاء فيه, وتمثيلاتهم, فمثلا ما المبرر المنطقي والعملي في كل هذا العدد من ممثلي وزارات غير الثقافة في المجلس وما الداعي لكل هذا العدد من رؤساء القطاعات الكبيرة والصغيرة في الوزارة ولماذا لا يكتفي بتمثيل البيوت الأساسية التي نص عليها القرار الجمهوري المنشئ فحسب, وذلك بحيث لا يزيد عدد الأصوات الممثلة لوزارات وهيئات أخري بما فيها وزارة الثقافة عن عشرة علي الأكثر ويكون هناك أربعون عضوا ممثلين للمثقفين والمفكرين المشهود لهم بالنزاهة والمكانة الحقيقية, وفي المجلس الحالي ما لا يقل عن عشرين عضوا من كبار المثقفين, ولكنهم لا يزالون أقلية تزاحمها أصوات مندوبين وممثلين لا لزوم فعليا لهم وعلي سبيل المثال لماذا مدير مركز المسرح وهناك مسؤول البيت الفني للمسرح, ولماذا مدير إدارة الرقابة علي المصنفات الفنية وقس علي ذلك أمثاله. أما عن نظام الانتخابات الذي يقوم علي عرض تقارير كل المرشحين علي كل أعضاء المجلس في جلسة واحدة, تمتد من الصباح إلي المساء, فهو نظام غير عادل أولا لأنه ليس من المنطقي أن يفهم كل الأعضاء في مجالات الفنون والآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية وكيف يفهم أستاذ اقتصاد, أو ممثل وزارة التجارة, في قيمة هذا الأديب أو ذاك؟ وكيف أستطيع أنا الناقد الأدبي وجمال الغيطاني الروائي وأحمد حجازي الشاعر تقييم هذا المتخصص أو ذاك في مجالات الاقتصاد, أو التخطيط, أو التسويق؟ وما أدرانا أن هذا المرشح أو ذاك هو الأفضل في مجال, ونحن لا نعرف إنجازه ولا إنجاز غيره من المبرزين في هذا المجال أو ذاك ولذلك ناديت, في الدورات السابقة, بأن يكون التصويت علي مرحلتين علي الأقل الأولي تخصصية, تضم مجموعات من أعضاء المجلس في المجالات الأدبية, مثلا, ومعهم كل من يريدون الاستعانة بهم من الخبراء, في المجال نفسه, وذلك في موازاة مجموعة ثانية للفنون, وثالثة في العلوم الإنسانية, ورابعة في العلوم الاجتماعية لاتساع مجالها وتختار كل مجموعة ثلاثة مرشحين, تضعهم في تراتب هابط أو صاعد, حسب قيمة الإنجاز ويتم عرض أسماء المرشحين في المرحلة الأخيرة علي المجلس كله, مع بيان بالغ الإيجاز لا يجاوز الأسطر المعدودة عن كل مرشح من الثلاثة المختارين ويقوم المجلس كله, في اجتماع عام, بالتصويت علي الأسماء المستحقة حقا لجوائز الدولة التشجيعية والتفوق والتقديرية والنيل الكبري. تبقي المجاملات الاجتماعية التي لا تزال عادة متأصلة فينا, ولا سبيل إلي مقاومتها واستئصالها إلا بالتراضي الحاسم بين أعضاء المجلس نفسه, في تشكيله الجديد الذي أرجو أن ينجح وزير الثقافةرئيس المجلس وأمينه العام والأعضاء في إعادة تشكيله, وفي الوقت نفسه لابد من وضع قواعد جديدة للترشيح والتصويت ونظام العضوية ولذلك أشير إلي الدور السلبي للجهات المرشحة التي تختار الأقدم لا الأصلح, أو تتعصب لمن فيها دون غيرهم, حتي لو لم يكن لهم إنجاز بارز مؤثر في مجالات الترشح, وحيث لا يخلو أمر الترشيح من الوساطة أو المجاملة. ولا أعرف كيف نقبل, نحن أعضاء المجلس, أن يكون نظام جائزة مثل جائزة العويس أكثر موضوعية ونزاهة وقدرة علي الاختيار السليم للأسماء التي تشرف الجائزة, ونحن في كل عام نخلط بين الجوهر والصفيح, حتي في جوائز هذا العام التي أفرحتني نتائجها وأحزنتني في الوقت نفسه. المزيد من مقالات جابر عصفور