يأتي الاتجاه لإنشاء مجلس أمن قومي لمصر, خطوة مكملة, لإعلان عودة الدولة من بعد ثورة 25 يناير, بعد أن كان النظام السابق قد أصاب البنيان السياسي للدولة بالخلل, وهدم أركانه, متسترا وراء شكليات لمؤسسات, لكنها في واقع الأمر ليست بمؤسسات. .. والحافز للتعجيل بهذه الخطوة, أن الشرط الأول لكفاءة الحكم, وللإدارة التنفيذية الناجحة, في عصر ثورة المعلومات, هو المعرفة, وهو ما لا يعني الحصول علي المعلومة وكفي, بل تحليلها وتبصر أبعادها الحاضرة والمستقبلة, بما يساعد علي صياغة رؤية تتجاوز التفكير التقليدي في التعامل مع المشكلات, وإطلاق الخيال لابتداع أفكار وسياسات تساعد الدولة علي النهوض, وتجهيز خيارات للتعامل مع مشكلات وأزمات, قد لا يكون لها وجود مرئي حاليا, لكن لها مؤشرات توحي باحتمال حدوثها لاحقا, حتي ولو كان هذا الاحتمال مستبعدا الآن. ولأننا في مصر, حديثو عهد بنظام مجلس الأمن القومي, فإن من المهم أن نسترشد بتجارب من سبقونا إليه, وإن كانت مصر قد شهدت حالة مستثناة حين كان للرئيس السادات مستشار للأمن القومي, ثم الأخذ بنظام مجلس الأمن القومي لفترة قصيرة, أثناء الإعداد لحرب 73, والذي جرت فيه مناقشات لتقويم وضع الدولة, في جميع قطاعاتها, ومدي الاستعداد لاتخاذ قرار الحرب. لقد سبقتنا بلاد عديدة الي هذا النظام, منها دول آسيوية حققت صعودا, لكن أقدم هذه التجارب, كان مجلس الأمن القومي الأمريكي الذي أنشيء عام 1947 في عهد ترومان, والذي تحول في الستينيات في عهد نيكسون, وتولي هنري كيسنجر منصب مستشار الأمن القومي, الي مؤسسة حديثة متطورة, حتي أنه كان يوصف باللجنة التي تدير شئون العالم. هذا المجلس حسب تكوينه, يضم رسميا: الرئيس, ونائبه, ومستشاره للأمن القومي, ووزيري الخارجية والدفاع, وعدد محدود من الوزراء المختصين الذين يحددهم الرئيس, حسب اتصال هذا الوزير بموضوع النقاش, لكن القوة المحورية داخل المجلس, تتكون من مجموعة صغيرة من مستشاري الرئيس للشئون الخارجية, المشهود لهم بأنهم من أهل المعرفة والفكر الخلاق, يعززهم مائتان (200) من الخبراء المعاونين يكلفون بتحليل الوضع الدولي, والأحداث المهمة, وتقديم المقترحات. ونتيجة للتطورات التي لحقت بالعالم في مفاهيم الأمن القومي, والتغيير الذي بدأت تظهر بوادره في موازين القوي الدولية والإقليمية, وصعود الصين, والدول الناهضة, المرشحة لتكون شريكا في إدارة النظام الدولي, فقد أقدم أوباما فور توليه, علي تطوير منظومة عمل المجلس, وضم إليه مستشارين في شئون الاقتصاد الوطني, والاقتصاد العالمي, والأمن الداخلي, ومكافحة الإرهاب, كذلك في العلوم, والتكنولوجيا, كأعضاء منتظمين, لكن فقط عندما تكون الموضوعات محل تخصصهم علي أجندة الاجتماع, وأضاف إليهم لجان سياسية مهمتها, تحليل مؤشرات ظاهرة قد تكون بسيطة, لكنها يمكن أن توحي بأنها مقدمات, سوف تترتب عليها نتائج. ومن ثم يجب أن توضع لها مبكرا سياسات نشطة, تحول دون تحولها لاحقا الي مشكلات أو أزمات خطيرة, بالإضافة الي إعادة رسم الخريطة التقليدية التي اعتادت أن تنظر من خلالها الي العالم, بحيث يتم تعديلها, بما يتوافق مع التغييرات في المناطق الإقليمية, وفي أوضاع وأوزان الدول, وفي طبيعة المشكلات والتحديات. .. والي جانب هذا النموذج فإن هناك بلادا أخري منها قوي كبري, أو دول صاعدة, ظهرت في سياق تجاربها, مقومات مشتركة مع غيرها, مع مراعاة ظروف وخصوصية كل دولة سياسيا, وتاريخيا, وجغرافيا, وثقافيا. .. كانت مصر في ضوء ذلك كله, قد عدمت في عشرات السنين الماضية, وجود مجلس أمن قومي, فضلا عن انعدام وجود استراتيجية أمن قومي, بمهامها الأوسع, والأشمل من مهمة المجلس ذاته ككيان, فلقد أديرت مصر بمبدأ أمن النظام, وهو شيء مخالف تماما لمفهوم الأمن القومي, لأنه يؤسس لدولة بوليسية, ويقوم تماما علي مصلحة الرئيس الفرد, ولا علاقة له بالمصلحة العامة للوطن والمواطنين. إن التحديات للأمن القومي, قد تنوعت, وتداخلت, ولم يعد هناك خط فاصل بين ما هو متربص في الخارج, وما هو قابع في الداخل, وصارت التحديات تتغذي من بعضها, وتبدو وكأنها حلقات متصلة في سلسلة واحدة, ولم يعد يصلح التعامل مع كل مشكلة علي حدة, بل يلزم التعامل معها جميعا من زاوية استراتيجية أمن قومي واحدة. .. وهذا ينقلنا من موضوع إنشاء مجلس أمن قومي, كضرورة عاجلة وملحة, الي مسألة وضع استراتيجية أمن قومي, أو استراتيجية مشروع قومي لمصر, فكل منهما له إطار عمله, لأنه اذا كان عمل المجلس, أن يكون معاونا للرئيس, فإن المجموعة التي يعهد إليها بوضع استراتيجية مشروع أمن قومي, تكون مجموعة مستقلة يتم اختيارها, من أصحاب الخبرة والمعرفة والرؤية السياسية والاستراتيجية, والتعددية الفكرية, والتنوع الوطني, ومهمتها وضع مشروع قومي يحدث صحوة في جميع شرايين المجتمع, تنطلق به نحو نهضة شاملة في كل ركن: من التعليم, والصحة, والاقتصاد, والبحث العلمي, والثقافة, والزراعة, والصناعة, والعدل الاجتماعي, والارتقاء بالبشر, وغير ذلك. كل هذا يبني الأساس الذي يعظم في الوقت نفسه, قيمة الدولة ومكانتها إقليميا ودوليا, ويكون سندا للدور الذي يقوم به مجلس الأمن القومي. المزيد من مقالات عاطف الغمري