يقف علي رأس أخطاء سياسات سابقة, أنها أحدثت خلخلة في بنيان النظام السياسي للدولة, صحيح كانت هناك حكومات( واكرر حكومات), لكن الدولة غير موجودة في الشارع, بالمعني الصحيح والمفهوم لمعني الدولة, وامتد أثر ذلك إلي ما بعد انتفاضة25 يناير2011, بالاعتداء علي مفهوم الدولة ذاتها, بحركة الانسحاب الامني, وانطلاق عصابات التخريب دون رادع. ان أساس وجود الدولة حسب ما يقرره علم السياسة هو المحافظة علي التوازن الدقيق بين الحاكم والمحكومين, بحيث لا يطغي دور أيهما علي الآخر, وإلا اختل هذا التوازن, وأفرز سلبيات عامة وشاملة, والحكومة هي أحد الاركان الاساسية للدولة, ووظيفتها الاساسية هي العمل علي رعاية مصالح الدولة وتقدمها, وتحقيق هذه الرسالة يفرض عليها التدخل في بعض ميادين النشاط العامة, حتي يتسني لها بلوغ الهدف الذي جاءت من أجله. وكان تغييب قطاعات من اصحاب المسئولية, لمفهوم الدولة قد ظهر في قيامهم بالتشبث بأفكار, ونظريات اقتصادية واجتماعية, اصابها العطب, ويضع من يتمسكون بها خارج الزمن والعصر. وحتي نبقي في محيط اللحظة الراهنة, ولكي لا نبتعد عن منظومة التفكير والسلوك التي أوصلتنا الي الازمة التي اشعلت ثورة25 يناير, وكلها تراكمات سنين, فإنني هنا لا أطرح كافة الاسباب التي أشعلتها, لكنني أتوقف أمام نماذج من بينها: ففي عصر ثورة المعلومات الذي نعيش تحولاته المتتالية بإيقاعها السريع, ثبت أن الشرط الأول للإدارة التنفيذية الناجحة, هو المعرفة. وهذا لا يعني الحصول علي المعلومة فقط,. بل تحليلها, وتبصر أبعادها الحاضرة والمستقبلية, بما يساعد علي تشكيل رؤية تتجاوز التفكير التقليدي في التعامل مع المشاكل, وإطلاق الخيال لابتداع أفكار وسياسات, تساعد الدولة علي النهوض.. هذه هي المعرفة. وعلي سبيل المثال فحين أخذ الناس يضجون من الارتفاع الجنوني في الاسعار والخارج عن نطاق السيطرة, بما لا يبرره عقل, أو منطق اقتصادي, ظل المسئولون يرسمون سياسات, ويدلون بتصريحات, تتحدث عن حرية السوق, وقانون العرض والطلب, وهو نفس السلوك الذي التزموا به, وهم يحدثوننا عن نتائج التنمية في صورتها الرقمية, وفي إغفال تام لمبدأ التوازن في توزيع عائد التنمية بين فئات الشعب, ولا أقصد الحكومة الاخيرة, بل كل الحكومات المتعاقبة. يحدث ذلك بينما العالم بالقرب منهم يتخلي عن كثير من هذه الافكار والنظريات, ويضعها علي الرف. كان أمامهم ما جري في حزب المحافظين البريطاني الحاكم, والمعروف تاريخيا بكونه الحارس علي الفكر الرأسمالي. ففي المؤتمر السنوي للحزب في اكتوبر2010, صدر ما اسموه ما نيفستو الحزب لعام2010 يبلور رؤية سياسية واقتصادية, تركز علي محورين أساسيين:(1) مسئولية الدولة في التدخل لضبط العلاقة بين قوي السوق. و(2) توافر العدالة الاجتماعية في توزيع عائد التنمية. .. رئيس الحكومة ديفيد كاميرون وصف التباين الكبير في الدخول, بالسير نحو الاسوأ. .. جون اسبورن وزير الخزانة قال إن تجديد المفاهيم أصبح العنصر الحاكم في بلوغ النجاح الاقتصادي. باقي المتحدثين في المؤتمر تحدثوا عن أن الطبيعة البشرية للمواطن تغيرت, ولابد من تغيير الافكار والنظريات لتتماشي معها. .. وهذا التغيير الذي طرح النظريات التقليدية جانبا, تتبناه الدول التي تقود عمليات تنمية اقتصادية واجتماعية ناجحة في آسيا وأمريكا اللاتينية. وابرزها تجربة البرازيل التي هبطت بمستويات الفقر بنسبة تزيد سبع مرات عن الزيادة في دخل الاغنياء في الفترة من2003 2009, واستعادة التوازن المجتمعي. فهي حققت زيادة في دخول الاغنياء, ولكن الارتفاع في دخول الفقراء كان أكبر. وهذا الاستيعاب لواقع العصر, شمل بقية دول العالم, ففي المنتدي الاقتصادي في دافوس يوم26 يناير2011 أجري استطلاع بين أعضائه اتفقوا فيه علي أن التباين الكبير بين دخول فئات المجتمع, هو من أهم الأخطار الرئيسية في عالم اليوم. وهذا المعني غلب علي مناقشات المؤتمر السنوي الأخير للرابطة الاقتصادية في الولاياتالمتحدة, كما ان مجلة الايكونومست البريطانية قد ألقت باللائمة علي من اسمتهم القطط السمان في وول ستريت بنيويورك, في حدوث الأزمة الحالية العالمية, وقالت إن ثرواتهم ازدادت تضخما, بالمقارنة بأوضاع الفقراء الذين أثر عليهم خفض الانفاق العام. وحتي لا يحدث لبس في فهم ما أقصده, فإن في مصر قطاعا من رجال الاعمال لهم دورهم في توفير عمل, والقيام بجهود للتخفيف من المشاق المعيشية للطبقات الفقيرة, ومنهم من أنشأ قنوات فضائية, استعادت التوازن في نقل الرأي والمعلومة. لكن تلك سلوكيات فردية, لم تستوعبها منظومة متكاملة لسياسات اقتصادية لها فكر واستراتيجية. وكان غياب هذا النوع من السياسات سببا في ترك الأسعار تتقافز جنونا وانفلاتا. ان النماذج كثيرة, علي الانفصال عن الواقع داخليا وخارجيا, ولو أنني توقفت أمام بعضها علي عجل سنجد ظاهرة الانفصال بين ما يقال وما يحدث مثلا في التعليم, بعد انتقال مسئولية التعليم من المدرسة الي مراكز الدروس الخصوصية, بما يستنزفه من ميزانية الاسرة المرهقة بالاعباء وسنجده في احتكار التحدث والتصرف في أمور تؤثر علي المستقبل, مثل الدفاع عن المادة76 من الدستور, بمبررات لا تقف علي قدمين, ولا تنال الرضا العام والمجتمعي. أو القول بأننا لن نأخذ بالقائمة النسبية في الانتخابات, لأن الشعب لا يريدها!!. .. كان الانفصال عن الواقع, وانعزال التفكير وراء أسوار تخيلية, يدفع نحو تغييب مفهوم الدولة, ويحدث الخلخلة في بنيان النظام السياسي, حتي تراكم منذ وقت طويل الشعور بأن الدولة غير موجودة في الشارع بين الناس.