تأتي زيارة الزعيم التركي رجب طيب أردوغان لمصر في الشهر الحالي وسط أجواء انتصار الثورة المصرية, والنجاح الكبير الذي حققه حزب العدالة والتنمية في الانتخابات الأخيرة, لتلفت الأنظار إلي مايمكن للدولتين الإقليميتين الكبريين أن تحققاه معا, ليس فقط علي مستوي العلاقات الثنائية, ولكن أيضا علي المستوي الإقليمي مع ما شهدته المنطقة في الأعوام الأخيرة من بزوغ دور تركي دبلوماسي نشط يتحرك من خلال رؤية إستراتيجية تركية جعلت من الشرق الأوسط أحد محاورها الرئيسية. يجري هذا بينما أخذت الدبلوماسية المصرية بدورها تعمل حاليا علي استعادة الأرض الدبلوماسية التي فقدتها خاصة في الأعوام العشرة الأخيرة من حقبة مبارك. وفي اعتقادي أن كلا الدولتين مصر وتركيا تجد الواحدة منهما في الأخري الشريك المثالي لبلورة سياسات إقليمية متوائمة من أجل إحداث نقلة نوعية في أحوال المنطقة, من حيث دعم فرص السلام, وحل النزاعات بالطرق السلمية ودعم فرص التنمية. فبينما توجد أوجه تشابه عديدة بين البلدين, توجد أيضا عوامل للتكامل بينهما, الأمر الذي يطرح بقوة إمكان إقامة علاقة استراتيجية للتعامل مع قضايا الإقليم, فلقد حسمت تركيا أمرها, وأصبحت الآن تولي وجهها جنوبا بعد أن ظلت لعقود طويلة تراهن علي الانضمام إلي الاتحاد الأوروبي, وهو ماثبت فيما بعد أنه كان رهانا علي سراب, فأصبحت تراهن اليوم علي دور إقليمي في الشرق الأوسط وأفريقيا, بالإضافة طبعا إلي دورها في دول وسط آسيا, وعندما اتخذت تركيا هذا الخيار تصورت أن انطلاقها نحو منطقتنا يمكن أن يبدأ من جارتها الجنوبية أي سوريا, ولكن مالبث أن قامت ثورة يناير في مصر بما فتحته من آفاق وولدته من طاقات, ثم جاءت أحداث الثورة الشعبية في سوريا ضد نظام البعث القمعي ليثبت من جديد أنه لابديل عن مصر ودورها الإقليمي في عالم عربي بات متلهفا علي عودة مصر إلي دورها القيادي المأثور, وأعتقد أن الشراكة المصرية التركية ستكون أمرا مرحبا به عربيا.. لاتعني هذه الشراكة أنه لاتوجد دول إقليمية أخري لها دورها الهام علي الساحة الشرق أوسطية.. فهناك بطبيعة الحال إيران ودورها الإقليمي الهام, والمطلوب من أجل التعامل مع العديد من الملفات الإقليمية وبوجه خاص الملف النووي, الذي درجت الدول النووية الكبري علي الاستئثار به مع تغييب دور الدول الإقليمية, ولقد أصبح من المهم الآن أن تطلب دول المنطقة العربية أن يكون لها دور مشارك في التفاوض مع إيران. كما أن هناك إسرائيل التي سيظل دورها مرهونا بالالتزام باستعدادها لإنهاء احتلالها للأراضي العربية, واحترام حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره, والواقع أن إسرائيل لن تستطيع الحصول علي اعتراف بدورها الإقليمي مالم تكن مستعدة للتخلي عن سياسات الهيمنة, وتكون مستعدة للانضمام إلي معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية, والتعاون من أجل جعل منطقة الشرق الأوسط خالية من أسلحة الدمار الشامل. ستتطلب الشراكة التركية أن يتوصل البلدان إلي تكوين رؤية استراتيجية بعيدة المدي لمستقبل الشرق الأوسط الذي ظل ومازال أسير الدبلوماسية الأجنبية, سواء كان ذلك في فترة الحرب الباردة أو فيما بعد الحرب الباردة, وهي حقبة شهدت انعقاد مؤتمر مدريد الذي لم يستمر طويلا قبل أن تذروه الرياح, وقبل أن تدخل المنطقة في حالة المتاهة التي تعاني منها الآن, وانعدام أية مبادرة جادة كفيلة بتحقيق السلام. لن يقتصر التعاون المصري التركي الذي نرنو إليه علي عدد من الملفات المطروحة حاليا, ولكن هذا التعاون يجب أن يمتد إلي تكوين رؤية بعيدة المدي لمستقبل المنطقة, رؤية ربما تستلهم عملية هلسنكي التي أسست لمؤتمر الأمن الأوروبي دون أن يكون لدينا توقع بإمكان تحقيق عملية مشابهة في وقت قريب.. ولكن من الممكن في تصوري التقدم بمبادرة مشتركة تبني علي الاقتراح المصري الذي طرحه الدكتور نبيل العربي أثناء توليه حقيبة الخارجية لعقد مؤتمر دولي علي نسق مؤتمر مدريد لبدء مفاوضات جادة لحل مشاكل الصراع العربي الإسرائيلي, وذلك بالتوازي مع المؤتمر المزمع عقده في العام القادم لجعل منطقة الشرق الأوسط منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل. والواقع أن هناك العديد من القضايا التي يمكن لمصر وتركيا تكوين رؤية استراتيجية مشتركة حولها, والتقدم باقتراحات أو مبادرات من أجل التوصل إلي حلول بشأنها وسيكون في وجود الأمين العام الجديد للجامعة العربية رصيد كبير وحافز لكي تساهم الدول العربية في تحقيق هذه الرؤية المشتركة, وذلك بالإضافة إلي ما يمكن أن يلعبه المجتمع المدني ومراكز الأبحاث في البلدين من دور هام في دعم الشراكة المصرية التركية, والسير بها نحو احداث نقلة نوعية في أحوال الشرق الأوسط, ومحاولة أن تقوم دول الإقليم ذاتها ودون الاعتماد الكامل علي القوي الأجنبية للتوصل إلي حلول لاتنبع فقط من رؤية مشتركة, بل تنبع أيضا من مصالح مشتركة.