نشأت وربيت علي احترام يشارف القداسة لبعض مؤسسات الدولة, وأعضاء هيئاتها, وضمنها القضاء والنيابة والبرلمان والصحافة. وكان أن ضرب إعصار التغيير جوانب كثرا في حياتنا المعاصرة. علي نحو توالت تداعياته وتعددت تجلياته, ومنها اختلاف صور بعض هاتيك المؤسسات, وتآكل أو تلاشي الأعراف والتقاليد السائدة فيها. ومع ذلك تجنبت الاشارة إلي أي من تلك التغيرات ذات الطابع الانقلابي, لأنني رأيت- دوما- أن المجتمع سيصحح بعض أوضاعه التي تأثرت, إذ إن احتياجا عاما لتلك المؤسسات- علي النحو الذي عرفناها به تاريخا- سيظل حاضرا وقائما وإلا كان خطونا إلي فراغ الفوضي والعشوائية لا غيرهما. ربما استثنيت من ذلك الصحافة لأنني استشعر مسئولية شخصية( مهنية وعلمية) نحو الاصلاح في مربعها, علي حين ظللت أتابع ما يجري في المربعات الأخري, فيعتريني الغضب والانزعاج أحيانا, ويتلبسني الرضاء والأمل أحيانا أخري. ولكن في دائرة مجلس الشعب الموقر, وسلوكات نوابه المحترمين- بالذات- ربما كان الانزعاج والشعور بالقلق حاضرين علي نحو يزداد ضغطه سواء بالنسبة لما يجري في ساحته, أو لما يثيره من توقعات. دعكم من ظواهر نواب الكيف, ونواب القروض ونوع اللغة الذي شاع وذاع, لا تخلو منه مناقشة أو جلسة, فتلك أعراض لأمراض اجتماعية, وثقافية, واقتصادية يعاني منها المجتمع كله, ولما كان مجلس الشعب الموقر ونوابه المحترمون هم- في نهاية النهار- سلخا أو شريحة من المجتمع, فقد تفشي فيهم قسم مما اكتسي البلد بساحاته ومؤسساته- علي إطلاقه. وبناء عليه نظرت إلي ما صدمنا في سلوكيات احتلت مكانها تحت القبة باعتبارها جزءا من الظاهرة العامة سيزول حين نتصدي- أجمعين وبجدية- لما أصاب أخلاقنا في هذا البلد- اللحظة الراهنة- من إعوجاج خطير. ولكن واقعة احتلت مكانها في قاعة المجلس يوم الثلاثاء9 فبراير الحالي, أراها من الخطر بحيث ينبغي علينا التعرض لها بمفردها, والتوقف أمامها ودلالاتها بكثير إمعان. إذا في أثناء مناقشة لجنة الصحة بالمجلس الموقر لملف أجور الأطباء والممرضات والموظفين الذين تظاهر بعضهم أمام الوزارة انفجر النائب المحترم اللواء عبد الفتاح عمر وكيل لجنة الأمن القومي والدفاع قائلا- ما معناه- إنه يخشي أن يلقي وزير المالية الدكتور يوسف بطرس غالي مصير جده( والقول- بالطبع- كان اشارة إلي اغتيال رئيس الوزراء بطرس باشا غالي في20 فبراير1910 علي يد إبراهيم الورداني بحجة أن بطرس باشا كان أحد القضاة في محكمة دنشواي وأنه كان موشكا علي تمديد عقد شركة قناة السويس). وبصرف النظر عن تلك الواقعة التاريخية الجدلية, فإن إيماء النائب المحترم اللواء عبد الفتاح عمر إليها كان خطيرا علي نحو أفزع كل صاحب عقل في هذا البلد, فقد جاء من نائب محترم يفترض أنه يعرف كيف يزن أفكاره وكلماته, ولا يندفع وراء العصبية, أو ينثر عباراته الغضبي بلا حساب. ثم إنها جملة مفعمة بالتحريض( حتي لو حذفها الدكتور حمدي السيد رئيس لجنة الصحة من مضبطة الجلسة, وحتي لو بررها البعض باعتبارها زلة لسان). النائب المحترم اللواء عبد الفتاح عمر وهو( قيادة) أمنية سابقة لا بل وتحدث في تلك الجلسة- بالذات-( عن احتياج البلد لحكومة أمنية تدير دفة الأمور علي نحو يكفل الاستقرار) يعرف- جيدا- أن مقولته كانت تحريضية بامتياز, وأنها جاءت- مصادفة- بإزاء وزير قبطي في وقت نتعرض فيه لمؤامرات فتنة, بما يهدد( أمن) أحد المواطنين الأقباط, وهو- بالمصادفة كذلك وزير اسمه يوسف بطرس غالي, فكيف يمكن للنائب المحترم- الذي نقدر ونثمن آراءه في أمور تخصصه المهني السابق- أن يطالب بحكومة أمنية, مشيرا إلي احتياج المجتمع إلي تكريس وترسيخ مفهوم( الأمن) ثم يتجاهل( أمن) المواطن يوسف بطرس غالي علي ذلك النحو المعيب؟! وربما يري البعض أن الموضوع انتهي بحذف العبارة من المضبطة وخلاص. وآسف إذ أقول إن ذلك التصور خاطئ من ألفه إلي يائه, لأن الخطورة في مثل ذلك الصنف من المقولات( الذي تنتمي عبارة النائب المحترم اللواء عبد الفتاح عمر إليه) هو أنه النوع الذي يمكن استلهامه عند أحد المهاويس أو المتطرفين أو الإرهابيين الذين أبلي اللواء عبد الفتاح- ذاته- بلاء حسنا في الوقوف ضدهم خلال سياقات أخري من أدائه البرلماني. عبارة خطيرة وملهمة. أفلتت لتحلق في مجلس الشعب علي نحو آذي شعورنا جميعا كمواطنين, حتي لو كان بيننا من يعارض بعض سياسات الدكتور يوسف بطرس غالي وأنا من هؤلاء أحيانا. وبالمناسبة فإن اشارة أخري للنائب المحترم اللواء عبد الفتاح عمر وردت في حديثه ذلك اليوم, وهي التي قال فيها إن الدكتور يوسف بطرس غالي وزير المالية بات( مكروها) من الشعب والحكومة, وأراها من نوع الاشارات التحريضية كذلك, فأنت يمكنك انتقاد سياسة أو قرار ولكن( تنميط) شخص ووصمه بالكراهية هو عمل يتسم بقلة الفطنة, واللياقة( مع اعتذاري للنائب المحترم). وأذكر أن حملة حزب المحافظين البريطاني الانتخابية البرلمانية عام1997 تضمنت تصميما لعيون الشيطانDemon-Eyes في محاولة لاختراع صورة نمطية لتوني بلير أو حزب العمال الجديد, تحض علي( الكراهية) فانتفض المجتمع البريطاني بأكمله رافضا تلك اللغة, لا بل يذهب البعض بعيدا ويري تلك الحملة سببا( ضمن حزمة أسباب) لنجاح حزب العمال الكاسح في الانتخابات بما أحدثته من أثر عكسي. ومن جهة أخري نحن نعرف أن وزير المالية أو الخزانة في أي بلد علي ظهر البسيطة- ربما- لا يكون أكثر الوزراء شعبية, وبالذات في ظل ظروف اقتصادية ضاغطة, أو تكليف الحكومة بتدبير الموارد لسد عجز ما وإحدي أدواتها- دون شك- هي فرض الضرائب. وزير المالية لا يدفع إلي ترشيد النفقات أو فرض الضرائب من عندياته, ولكنه ينفذ توجيها حكوميا. وفي نهاية المطاف فإن الرئيس مبارك- ربما- يتدخل لصالح مفهوم العدل الاجتماعي أو عدالة توزيع الأعباء في المجتمع, فيدرس قانونا أو يطلب تعديلا, ولكن ذلك لا يعني أن وزير المالية ضد الشعب, وإنما هو كادر فني تكنوقراطي يحاول تقديم بدائل للجهاز الحكومي إزاء موقف بعينه, ثم تأتي سلطة رئيس الجمهورية- بعد ذلك- للضبط الاجتماعي الذي يراعي مصالح الناس, وهو ما حدث في عديد من الحالات ومشاريع القوانين. البرلمانات- كما يعرف النائب المحترم اللواء عمر نشأت أساسا لفرض الضرائب, وهكذا أنشأ الملك برلمان وستمنستر في أم الديمقراطيات بريطانيا, وفي حالات الرغد لا يحدث احتكاك بين سلطة فرض الضرائب وهي البرلمان والناس, أما في حالات الضنك فوارد أن يحدث ذلك, ولكن ينبغي أن يقر في ضمائرنا أن فرض الضرائب أو ترشيد النفقات ليسا من سلطة الوزير فقط, ولكنه عمل مشترك للهيئة الحكومية والبرلمان حين يحتاج المجتمع ذلك. والحقيقة أن هذا الكلام- ربما- يجرنا إلي مناقشة وضع وزير المالية في مصر, فالمفترض أن وزير المالية هو رقم اثنين في الحكومة بعيدا عن الوزارات السيادية( هكذا في بريطانيا حيث يقيم وزير الخزانة في11 داوننج ستريت إلي جوار مقر رئيس الوزراء في10 داوننج ستريت) ولوزير الخزانة- هناك- مروحة واسعة من المسئوليات والصلاحيات تعطيه كثير سيطرة علي سياسات وتوجهات الوزارات المختلفة, ولكننا- في مصر- لا نعطيه تلك الصلاحيات ونختزل صورته أمام الجمهور في وظائف الجباية يعني نحوله ساترا ليتلقي الضرب بالوكالة عن الحكومة. والنائب المحترم اللواء عبد الفتاح عمر يعرف ذلك- بالقطع- ومع ذلك يساهم في التعليم علي ظهر الدكتور يوسف بطرس غالي( بالكراهية) التي- ربما- يستلهمها آخرون مظللين بعباراته عن مصير الجد بطرس باشا غالي. وبيقين فإن المقام- هنا- يتسع لذكر شيء عن تغطية الصحافة لواقعة الثلاثاء9 فبراير في مجلس الشعب, إذ ليس كل ما تعرفه الصحافة ينبغي أن ينشر.وهذا الخبر- علي أي حال- ليس سبقا يتعلق بقيام الحرب العالمية الثالثة, ومن ثم كان علي الصحافة أن تضحي به التزاما بمسئولياتها الاجتماعية إزاء المجتمع, فالأكواد الأخلاقية للصحافة لا تتعلق- فقط- بتجنب السب والقذف( وإن كنا نغالي ونوغل في السب والقذف المباشرين مع كثير الأسف) ولكن الأكواد الأخلاقية تتعلق- كذلك- بالامتناع عن( التحريض) أو( الكراهية). كنت أحب من الصحافة الخاصة- التي بدأت تنحو تجاه الرشاد في بعض ممارساتها- أن تمتنع عن نشر أخبار واقعة الثلاثاء في مجلس الشعب عبر اتفاق بينها, وأن تحذفها من مضابطها كما حذفها الدكتور حمدي السيد من مضبطة اجتماع اللجنة. وفيما يخص الأداء الصحفي, فإنني- كذلك- رأيت مسألة نشر قرارات علاج وزير المالية علي نفقة الدولة عملا يتسم بالفظاظة حتي لو تكلف العلاج مليونا من الجنيهات. إذ تحت يدي عشرات من صور قرارات العلاج علي نفقة الدولة- خلال العقدين الماضيين- بمبالغ تقارب ذلك المبلغ أو تتجاوزه ولمواطنين عاديين ليس فيهم وزير ولا سفير! صحيح أن ذلك لا يحدث في كل الحالات ولكنه حدث علي أي حال- في بعضها. والمجتمع لم يعرف أن وزير المالية رجل أعمال, أو أنه كان عائلا فأغنته الحكومة ولم يسمع عنه شبهات تجاوز أو فساد, ومن ثم إذا مرض الرجل فمن يعالجه؟! المشكلة أن تسريب أوراق علاج الدكتور يوسف للصحف( وهي مسألة معيبة جدا أيا كان المسئول أو الإدارة التي تورطت فيها) جاء في توقيت تعلن فيه وزارة الصحة عن ترشيدها لعمليات العلاج علي نفقة الدولة, وتشتبك مع بعض نواب مجلس الشعب الذين وصفتهم( بالمتاجرة) في قرارات العلاج ومن ثم نظر الجمهور باستهوال إلي ملف علاج الوزير. ثم إذا أضفنا اتهامه بأنه وزير جباية لا هم له سوي فرض الضرائب علي الناس فإن ذلك- وعلي نحو مباشر- يدفع الجمهور للقول إن المجتمع يدفع ضرائب لعلاج الوزراء. والأمور لا تطرح هكذا, وآن لنا- جميعا- أن نتوخي العدل والموضوعية في طرح أي قضية أو فكرة سواء كنا صحفيين أو نوابا. انحيازي الاجتماعي شديد الوضوح, ولا أقبل أن يلغط أو يلابط حوله كائن من كان, ولكن انحيازي الأخلاقي واضح كذلك وأنا حاضر للترافع عنه متي وجدت مناسبة. وما أكتب اليوم هو دفاع عن( أمن) الوزير يوسف بطرس غالي و(أمن) مجلس الشعب, و(أمن) النائب المحترم اللواء عبد الفتاح عمر, و(أمن) المجتمع كله!